النظام السوري.. صراع على مال الشعب
محمود الوهب
مهما قيل عن الأخبار التي تناقلتها مواقع إلكترونية حول ما يمكن أن يكون خلافاً جدّياً بين أفراد الطغمة الحاكمة في سورية، وإذا ما كانت الأخبار صادقة أم كاذبة، فهي في جميع الأحوال متوقعة، وما شيوعها السريع إلا لأنها كذلك، ولأنها من جهة ثانية تلبي رغبة دفينة ينتظر الشعب السوري رؤيتها محققة، فهي بذلك نوع من التشفي، وأمل الخلاص من ظلم مرير أوقعته طغمة لصوص وقتلة بالسوريين كافة. وتأتي ملامستها الواقع الموضوعي من أنَّها نهاية مسيرة طغمة لا تشبه إلا عصبة أوصلها سلوكها المشين، وكثرة تجاوزات أفرادها بعضهم على بعض، إلى طريق مسدود، فبات أحدهم هدفاً للآخر. وقد سبق أن حدث مثل هذا الخلاف بين عضو مجلس الشعب، رجل الأعمال السوري محمد حمشو وشريكه شقيق رئيس النظام، ماهر الأسد، إذ وضعت مراكز حمشو التجارية تحت حراسة عسكر ماهر، وأوقف بعض عمّاله وموظفيه، لكنّ الأمور سوِّيت فيما بعد. كما حدث أن أبعدت أموال رامي مخلوف، رجل الأعمال النافذ وابن خال بشار الأسد، إلى دولة الإمارات، بقرار داخلي اتخذته الطغمة نفسها، بعد أن كثُر الحديث عن حجم الأرباح التي كانت تحمل بأكياس الخيش (حين كان لليرة السورية وزن وقيمة) مساء كل يوم من مراكز شركة الهاتف الخليوي “سيريتل” في المدن السورية الكبرى، وكم دارت أحاديث عن عقد الشركة المجحف بحق الدولة.
ويذكر الكاتب هنا، وكان عضواً في مجلس الشعب، أنه سأل مرة وزير الاتصالات، بشير المنجد: لماذا لم تأخذ الدولة استثمار هذه الشركة مضمونة الربح، وتدعم مشاريعها التنموية المتوقف معظمها؟ فأجاب: ليس لدى الدولة السيولة المالية الكافية كما هو حال أصحاب الشركة المستثمرة.. فلما سأله عن حجم المبلغ الذي وضعته الشركة في الاستثمار فقال: 400 مليون ليرة سورية. فاستهجن السائل ذلك الرقم التافه بالنسبة لدولةٍ مثل سورية يحتفظ بنكها المركزي بسبعة عشر مليار دولار نقداً احتياطياً، إضافة إلى خمسة مليارات أخرى، كانت قد سحبت من المبلغ الأصلي 22 ملياراً، وأودعت القصر الجمهوري بناء على اقتراح من القصر، بزعم أنها ستكون تأميناً لطوارئ ما، قد تحصل (المعلومة منقولة عن وزير المالية السابق محمد الحسين)، وقد استخدمت المليارات الأولى، كما هو معروف، في تدمير سورية، وقتل شعبها،
وقَسْره على الهجرة، وممارسة ألوان القهر على من تبقوا.
وثمّة حادثة أخرى تتعلق بالأسواق الحرة السورية، ومنافذها الحدودية، والتي استثمرها مخلوف “بتراب الفلوس” أيضاً كما شركة سيريتل، ما يؤكد سرعة التراكم الأولي لثروته. والحادثة ملاحظة لفتت الكاتب لدى عودته من سفر عبر مطار دمشق، إذ كان فيه منفذا بيعٍ للسوق الحرة قبالة بعضهما تماماً، بينهما أمتار، وكلاهما يحوي البضائع نفسها، ويعرضها بالأناقة والترتيب ذاته، ولكن اللافت أن أحد المنفذين يزدحم بزبائنه، بينما موظف الثاني “يكش الذباب” كما يقال. عندئذ، حشر الكاتب نفسه وسأل الموظف، بعد أن عرَّف بنفسه، عن السبب، أجابه، في نوع من الشكوى: نحن، أستاذ، قطاع عام، والمنفذ الآخر خاص ومعفي من الضرائب (المعني طبعاً منفذ رامي مخلوف). وبالتالي فهو أرخص بكثير، ويغري الزبون. نقل الكاتب تساؤله محتجاً إلى مجلس الشعب الذي يعيِّن بعض أعضائه رامي مخلوف نفسه، فردَّ، حينها، رئيس المجلس، محمود الأبرش، بكلمات تسويفية باردة لا طعم لها، ولا روح فيها، هي على قدر ما هو مخصص لمجلس الشعب.
تعيد الحادثتان، ومثلهما الكثير، إلى الذاكرة، ما أتى به باتريك سيل في كتابه “حافظ الأسد.. الصراع على الشرق الأوسط” أنَّ الأسد الأب كان “يطمح إلى إيجاد برجوازية ساحلية تنافس برجوازية الداخل”، ولا يتحقق هذا الطموح إن لم تجد الدولة سبلاً له؟
الآن، وبعد انتهاء مدة عقد شركة سيريتل منذ سنوات، وتجديده آلياً سنين أخرى بمبرّرات شبيهة
بالزعم السابق نفسه، وظروف البلد. وبعد أن ضاقت منافذ السرقة عما كانت عليه، إذ صار في البلد شركاء كثر، فثمة إيران وروسيا وأميركا، تكثر الأحاديث عن لجوء بشار الأسد إلى إجراءاتٍ ضد “ابن خاله” كما ذكر موقع “كلنا شركاء” السوري المعارض يوم 27 أغسطس/ آب 2019، أنّ من بين الإجراءات التي اتُّخذت “نقل حصة رامي في شركة سيريتل لصالح مؤسسة الاتصالات السورية التابعة للحكومة”. وجاء “إجراء رأس النظام السوري، بشار الأسد، ضد رامي مخلوف، رجل الأعمال الأبرز في البلاد؛ بسبب عجزه عن تأمين مبالغ مالية طائلة، طلبتها روسيا من بشار الأسد” (المبلغ المطلوب مليارا دولار).
وكتب فراس طلاس (نجل وزير الدفاع السوري الأسبق، مصطفى طلاس، الأكثر علماً بأسرار العائلة المالكة، فوالده أحد حراسها، والمنفذ لوصية حافظ الأسد في استخلاف بشار)، معلِّقاً على تلك الأخبار عبر صفحته في “فيسبوك”: إن “الخلاف بين بشار الأسد وخاله محمد، وابنه رامي، إشاعات مضخمة”، لكنه أضاف: إنّ “نفوذ محمد مخلوف بدأ في الثمانينيات، مع انحسار نفوذ رفعت الأسد (شقيق رئيس النظام السابق)، وأصبح يلعب دور خازن العائلة الأسدية/ المخلوفية، وازداد نفوذه مع اشتداد مرض حافظ الأسد بعد موت باسل، إلى أن توفي الأسد الأب”.
وإذا كان موقع المدن قد كذَّب هذه الأخبار، وكتب أن أساس الخبر جاء من حساب مسروق أو مهكَّر يحمل اسماً مستعاراً (نسرين مخلوف) فإنَّ الواقع يقول: “لا دخان بلا نار”، وإذا كان ثمّة تعليق، فالموقف كله يتلخص في أن زمن الراحة ولَّى، وجفّت جداول السمن والعسل أو كادت، مع تقطيع سورية إلى أشلاء، وأخذت المشكلات تترى وتتوالد. إذاً لا بد من أن ينتقل الصراع إلى الحلقات الضيقة، تماماً كما تجري الأمور عندما ينكشف أمر عصابة ما، ويضيق الخناق حول رقبتها، فيسعى كل فرد فيها إلى أن يلوذ بنفسه متخلّصاً من الشريك الذي تحوَّل
إلى غريم، ويعتقد أن جوهر المشكلة، هنا، يكمن في من استعان بهم بشار، فهؤلاء يعرفون تماماً أنهم جاءوا لحماية عصابة، لا دولة ولا شعب. ومن هنا كان الطمع والجشع، ولم يكن هدرهم الدم والمال لعيني بشار أو رامي الذي دق ناقوس الخطر عبر صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ليسمع تل أبيب شيئاً عن فحوى انتفاضة الشعب السوري في عام 2011.
وقد نشرت “التايمز” البريطانية لكاتب روسي أن بشار الأسد حاول تجاوز وزارة الدفاع الروسية التي طالبته بوفاء جزء من دين روسيا على سورية، واللجوء إلى الحديث مع مؤسسة الرئاسة (الكرملين)، مقدماً طلباً بمنحة إضافية، ليأتي رد الكرملين إشارة مخيبة لظن الأسد تقول: “تتجاوز ثروة ابن خالك ثلاثة مليارات دولار”. وتذكِّر إشارة صاحب الكرملين بحادثةٍ جرت مع النظام السوري أواسط ثمانينيات القرن الماضي، عندما طالبهم الألمان الشرقيون بدفع ثمن دواء طلبته سورية، وتعذَّر السوريون بأنهم دولة فقيرة، فقال الألمان حينئذ: “منذ أيام فقط دفعتم ثمن صفقة سيارات مرسيدس من ألمانيا الغربية..!”.
خلاصة ما تقدم أنَّ تكرر الحوادث في عهدي الأب والابن لا يعني تطابقهما، فإذا كان عهد الأب قد مضى إلى صعود بفعل عوامل كثيرة حكمت المنطقة، فإن عهد الابن سار إلى هبوط على الرغم من المساعي الدولية الحثيثة لإيقاف الزمن. ويبقى لمنطق الحياة وللشعب السوري رأي آخر، ويبقى درس الاستبداد جلياً، فالمقدمات التي بدأها الأب، واستمر عليها الابن، أعطت نتائجها التدميرية التي أرضت الطموح الإسرائيلي!
المصدر: العربي الجديد