“لهذا أخفينا الموتى”.. أو قصة العذاب والموت في المعتقلات السورية
برهان غليون
ليست السجون السورية أماكن لحجز حرية المعتقلين عقابا لهم على القيام بأعمال مخالفة للقانون، وتنفيذا لحكم قضائي، الهدف منه حماية القانون الذي ينظم العلاقات بين الأفراد في مجتمع متمدّن، ولا تعبر عن استراتيجيات قمعية تسعى من خلالها السلطة السياسية، عن طريق القهر والتعذيب وكسر إرادة المعارضين لها، إلى انتزاع معلومات إضافية، وإكراه المعتقل بالعنف على الاعتراف بسيادتها المطلقة والتسليم لها، ومن ثم ردع النشطاء عن المثابرة، وإخراجهم من حسابات المجتمع وإخراج المجتمع من حساباتهم. إنها تمثل، كما يروي وائل الزهراوي في شهادته/ روايته “لهذا أخفينا الموتى” (دار وائل للنشر والتوزيع، عمّان، 2019). حالة استثنائية، الهدف الأول لها القضاء على أرواح المعتقلين الجاحدين قبل القضاء على أجسادهم. نحن هنا امام حالة استثنائية للقتل المقطّر الذي لا يهدف إلى تغيير اعتقادات الأفراد الضحايا، أو حتى إلى كسر إرادتهم، ولكنه يمارس على ضحايا مكسورين ومستسلمين أصلا حُكم عليهم سلفا بالإعدام. إنه الموت تحت التعذيب الذي يصبح معه الموت نفسه خلاصا لا يمكن نواله، كما في جحيم الأديان السماوية التي لا يكاد فيها جسد المدان يكمل احتراقه، حتى يستعيد حياته ليحترق ثانية إلى ما لا نهاية.
(1)
يروي وائل، في شهادته، بلغة مفجوعة قصصا عن الأهوال التي كان شاهدا عليها وموضوعها معا، والتي تتحدّى الخيال. يكتب مثلا في إحدى شهاداته: “أشار السجان إلى عشرات الجثث الملقاة في الممر، وقال: أريد قبل الصباح أن تكون كل هذه الجثث على يمين المدخل الرئيسي، أرصفوهم أربعة أربعة. ثم مشى خطوات قليلة، وفتح غرفة كادت رائحتها أن تسقطنا جميعا. ابتعد بعدها مغادرا، وهو يقول: وكل الجثث التي في هذه الغرفة أيضا، إن طلعت الشمس ولم تحملوها فستكونون جميعا جثثا جديدة…”.. “حين اقتربت خطواتنا منها، أوشكنا أن نختنق من رائحة الجثث…عشرات الجثث المكوّمة فوق بعضها، منها ما هو من دون أطراف، وكثيرون من دون عيون وأفواه ومنها ما هو مبتور الأصابع، وآخرون من دون أظافر وقد تساقطت جلودهم حتى ظننت أننا حين نحملهم سيتفتتون بين أيدينا، والبعض كان ممزق الصدر والأمعاء ومقلوع الأثداء، وثلة منهم كانوا محروقين حروقا بالغة، أنتجت حفرا في أجسادهم، وغيبت ملامحهم تماما. جلست بقرب ودود نبكي وننتحب عليهم، ونحن ننظر إلى هذا الصرح من الشهداء المجهولين”. .. “نهضنا نخشى تسارع الوقت، فالصبح قريب، وبدأنا نخرج الجثث ونتقيأ كلما رفعنا واحدة من فوق أخرى، الدود كان يسكن محاجر عيونهم، والعفن غطّى ملامحهم حتى تشابهوا فأمسوا جميعا يحملون وجه الوطن المسجى بينهم… أحصينا عدد الجثث، كانوا سبعة وأربعين شهيدا، نصفهم من دون ملامح تميزهم، والبقية وهبوا وجوههم للهتافات التي كانت ترنو نحو الآتي القريب”. ص 42-43.
وعن الموت جوعا: “يسألوننا كل يوم عن عدد الجثث، وبحسب العدد المتبقي يرمون لنا أرغفة الخبز، لكل خمسة معتقلين رغيفا واحدا”. ..”صباح اليوم التالي، بعد أن أخرجنا جثث رفاقنا
جلسنا نقتسم ثلاثة أرغفة من الخبز ونحن تسعة عشر معتقلا، أربعة منا أصبحوا على شفير الموت، شحبت وجوههم وغارت عيونهم وعزفوا عن الطعام…”. هكذا خطرت لأحد المعتقلين ألا يسلم المعتقلين المنذورين للموت البطيء المتعدّد الأشكال والأزمان سوى جثة واحدة كل يوم، حتى يحتفظوا بحصة المتوفين من الخبز. ولكن لم تمر أيام قليلة حتى “لاحظ المساعد أننا حين يفتح الباب نقف جميعا ووجوهنا للحائط كالمعتاد، لكن باتجاه حائط محدد واحد. في ذلك اليوم، فتح المساعد الباب وأمرنا أن نخرج جثث رفاقنا الذين توفوا البارحة”. صرخ المساعد “قل لماذا رائحة الجثث مختلفة عن باقي الزنازين، ولماذا تقفون كلكم مقابل هذا الحائط؟”. ..”مرّت ثوانٍ، وأنا أنتظر الموت كيف سيكون طعمه، هل سيكون مؤلما أكثر من التحقيق؟ ما الذي سيفعله بي، هل سيحرقني ويقتلع عيني. ولاحت أمامي آلاف الأشياء، وكأني لست هناك ولم أعد أرى أي شيء”.
لن يتأخر درس الحرق كثيرا، فلم تمض أيامٌ حتى “سمعت المساعد – يروي وائل- يقول: أشعلوا الشمعة، فأصابتني حالة دوار وانهيار تام”. كان التعذيب بالشمعة الذي لا أحد يعرف لماذا وقع على عبد الحي، يعني أنه بعد أن يخلعوا ثياب الضحية، يربطونه عاريا على كرسي من الحديد من دون سطح، ويشعلون تحته، في المنطقة بين الجهاز التناسلي والمؤخرة، شمعة وينتظرون. “وتبدأ الشمعة بإحراق تلك المنطقة المليئة بالأعصاب واللحم الطري، ويبدأ الصراخ يشق كل صمت هذا العالم الرخيص، والشمعة رغم كل توسلاتنا لا تتوقف عن أكل اللحم الذي يتقطر كالدهن في حالة الشواء”.
“عندما أحرق عبد الحي، في المرة الأولى، أغمي عليه ثلاث مرات. وهذا ما أغضب المساعد، فضربه على راسه بكبل الدبابة، حتى عميت عينه اليمنى”. وفي المرة الثالثة التي اقتادوه إلى الحرق، “كان جسده مملوءا بالتقرّحات، وظهره ليس عليه سوى بقايا لحم هنا وهناك. وكان قد فقد كثيرا من وعيه”. و”في مساء اليوم التالي، عندما أعادوه إلى زنزانتنا كان في غيبوبة كاملة. رموه على الأرض وذهبوا. بعد برهة صحا. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. كنت ممدّدا بقربه. أمسكت يديه وكانت الدموع هي حروف الكلمات. همست بأذنه: تماسك أخياه. فأومأ لي برأسه عدة مرات وعيناه نصف مفتوحتين. صار بعد قليل يصرخ وينتحب، همست أني سأرى ما يؤلمه وكانت الفاجعة التي ما زالت تمر أمام عيني حتى اليوم. كان اللحم بين فخذيه مختفيا تماما، وثقب كبير جدا بين مؤخرته وأعضائه التناسلية ينز دما ودهنا وبعض قطرات بيضاء لست أدري ما هي. ويمكن للإنسان أن يدخل يده كلها في ذلك الثقب الذي صنعوه في جسده الضعيف. وفوق ذاك، كان قد قضى حاجته وتبرّز من دون أن يعرف، ومن دون إرادة منه فاختلط كل ذلك داخل الثقب الكبير …” ..”اقتربت منه وضممته إلي. كان يهمس لي اقتربت منه أكثر فقال: لا تتركني لا تتركني، أولادي، سلم على أهلي، لا تتركني يارب ساعدني. وراح يكرّرها عشرات المرات. ارتجف صوتي، وأنا أعيد عليه لا تخف لن أتركك أبدا، لن أتركك طالما أنا حي. والحقيقة لم أكن أعرف أني حي أم ميت”. .. “كانت عينه اليمنى أيضا تنزف بشدة. ثم تقيأ قطعة من الدم بحجم نصف كف اليد، ثم تقيأ مرة أخرى قطعا من الدم وهو يبكي ويختنق وينزف من كل مكان في جسده. أظافر رجليه كانت قد سقطت منذ زمن، لأنه كان في زنزانة مستنقع “قطاع الإفراديات”. “في الليل، كانت تأتيني نوبات حمّى نتيجة التهابات جسدي وجروح رجلي. غفوت ويداي تحيطان يد عبد الحي”.
وفي قصة ثانية عن الطفل كنان الذي اقتيد مع والديه إلى التعذيب: قال المساعد لجلاوزته
“اسمعوا، أريد ان يصل صوته إلى أمه في المبنى القديم. فراحوا يضحكون، وبدت خيالاتهم على الجدران وهم يتنافسون على افتراس بقية أب وطفل يطلّ من شرفات الموت .. تقدّم أحدهم، ووقف فوق رأس الطفل وظهره للحائط، وشد على رأس الطفل، فثبته تماما بين قدميه، وأسقط جمرتين من جمرات النرجيلة المشتعلة على ظهره فجأر الطفل وأطلق صرخة مزّقت صمت الكون .. وأخذ لحم الطفل يحترق، ويصدر ذاك النصيص الذي يعلو حين يشوى اللحم”. “تضاحك أحدهم، وقال: سيدي هذا الصغير احترق، فأجابه المسخ اللعين: خذ وأطفئه. وأعطاه إبريق الماء، الذي كان يغلي فوق الموقد، فصبه على ظهر الطفل دفعة واحدة. وعاد الطفل على وقع عذاب الحريق يعيد ترتيب الكون بنحيبه وصراخه.. وأخذ ينتفض ويبكي بظهره المسلوخ وجلده المحترق ثم أغمي عليه”. وبعد العودة إلى الزنزانة، في مساء ذلك اليوم “بدأ الطفل يصحو، وفي أول لمحة فتح فيها عينيه وشاهد أباه بكى وشهق وتقيأ،وهو ينزف من رأسه وأنفه وقدمه. نظر إليه والده، وقال: كنان كيف أنت، كنان يا ولدي، يا ضوء عيني، يا حبيبي. والطفل يغلق عينيه ويفتحهما. بعد ساعات رجف عدة مرات ثم ازدادت وتيرة أنفاسه كأنه يختنق. حاولنا فعل أي شيء، لكنه بعد قليل أسلم الروح ومضى”.
وفي قصة أخرى، يتحدث مؤلف “لهذا أخفينا الموتى” عن حنّا: “من بين كل أولئك الأبطال الذين رأيتهم هناك، أسر قلبي شاب لم يكمل الثانية والعشرين، وهو يحملني أسبوعا كاملا للمراحيض على ظهره، وينهض كالجبل الأشم. شهور الجوع لم تؤثر فيه كبقية المعتقلين، كان فولاذي الجسد، صنديدا حقيقيا. إنه حنّا، حنّا الذي يقرأ معنا الفاتحة على أرواح الشهداء، ثم يرسم الصليب على صدره. إنه حنا، ذاك الفارس الذي كان يقول للمعتقلين المحتضرين تشاهدوا تشاهدوا وهو يذكر اسم يسوع.. حمل عشرات المعتقلين على ظهره إلى المراحيض، والمساعد المسخ كان يقول له: ستسقط يوما يا حنا. منذ أيام قليلة، خرج حنا يحمل معتقلا كهلا. وفي طريق العودة، انزلقت رجله وسقط بين أقدامهم. كنت على بعد خطوتين منه، تجمّدنا جميعا وحانت ساعة الموت. اجتمع المسعورون حوله، وهم يضحكون ويقولون: وقعت أخيرا، يا حنا. وهوى قضيب الحديد على أذنه، كي لا يحاول النهوض، ثم علا الكفر والصياح وهم يحرقونه بالكبال. شكلوا دائرة حوله. تركوا كل شيء، واتفقوا على قتله في ذاك الصباح. ضربوه عدة ضربات بكبل الطائرات على رأسه، فبدأ يغيب عن الوعي، ثم صاح أحدهم انشروه وسنرى كيف سيكون رجلا”. وكانوا يقصدون بالنشر تعليق المعتقل كالثياب على حبال الغسيل.
“كانت هناك أنابيب حديدية تخرج من أحد جدران الممر، لتدخل في الجدار المقابل لها. كنا نحسبها أنابيب للصرف الصحي. رفعوا حنا إليها، ثم فتحوا له يديه، وربطوهما كل واحدة باتجاه على شكل الصليب، ثم شدّوا الجنازير حتى التصقت يداه، والتفتا تماما حول الأنبوب. ثم قفلوا الأصفاد بين يديه وبين الأنبوب مرة أخرى. وبهذا أمسى ملتحما تماما به. ثم فجأة تركوه يلوّح في الفراغ، وراحت الجدران تتشقق من عويل صراخه، فالأنبوب يحتك بقوة هائلة بلحم إبطيه، لأنه أمسى معلقا من مفاصل أكتافه فقط، فينفرم لحم إبطيه، وينكشط جلده تحت ضغط وزن جسده، وهو يتأرجح في الهواء”.
“لم يكن ذاك كل شيء. أخذوا يضربونه بالكبلات والقضبان الحديدية على بطنه وفخذيه، ويتعمدون إصابته على أعضائه التناسلية. وبين كل دقيقة وأخرى، يدفعونه كي يلوح أكثر في الهواء، فتتمزنق دفعة جديدة من لحم إبطيه، حتى وصلت إلى مفاصله. سمعنا جميعا صوت
تكسّر عظامه وانفصلت أكتافه عن جسده وهو يئن، وصدى بكائه يهتك أهلة المآذن ووجوه الصلبان. ضربوه بالقضبان الحديدية على رأسه، حتى أغرق دمه أماكن خطواته، وهو يعدو حاملا أوجاع الآخرين. في صباح اليوم التالي، كان حنا ما يزال معلقا هناك ميتا. حين مررت بقربه، شعرت أن مسيحا جديدا صلب هناك. ليس ليمحو عذابات البشرية، بل لأجل الحرية. استشهد حنا، القديس حنّا، وسيبقى اسمه نصل الإباء الذي يقطر شرفا مادام الوطن هناك”.
أما ذاك الشاب الثلاثيني الذي رموه في الزنزانة الجماعية مكمم الفم، فقد قضى بطريقة من الصعب تصور أكثر شناعة منها، مستخدمين الأسلاك الشائكة بعد غرسها بطريقة شيطانية داخل جسم المعتقل، حتى يموت نزفا. “كانوا يُجلسون المعتقل على كرسي خشبي، بعد أن يكونوا قد كبلوا يديه وعصبوا عينيه، ثم يأتون بالأنابيب التي تستعمل في البيوت لتوصيلات المياه، ويدخلونها في فمه، حتى تصل قريبا من معدته، وهو يختنق بصراخه. وحين تبدأ عيونه تنزف، يعرفون أن الانبوب وصل إلى الحد المطلوب، ثم يدخلون داخل ذاك الأنبوب الأسلاك الشائكة التي تكون لها مئات النتوءات القاتلة، ويستمرّون في دفعها، حتى يبدأ المعتقل بلفظ دم معدته، وهو لا يستطيع أن يصرخ، ولا أن يستنجد. ثم يسحبون الأنبوب من معدته، ليبقى السلك الشائك عالقا من معدته حتى فمه. ومع أول حركةٍ يقوم بها المعتقل، بعد أن يتركوه، تنغرس أشواك السلك في داخله، من أعلى حلقه حتى أدنى معدته، وهو يموت ألف مرة بصمتٍ أبدي عميق”. وكانوا فوق ذلك “يضربونه وهم يضحكون ويقولون له إهتف الآن، اهتف للحرية الآن، كن رجلا واهتف”
(2)
لم يكن الانفلات في الوحشية والعنف سلوكا عفويا لكلاب حراسةٍ دربوا عليه، لصالح معلمهم، ولا نتيجة أخطاء ارتكبها أفراد تمرّسوا في التعذيب وصار “التجويد” فيه، والمباراة في إنزاله بأقصى الأساليب الوحشية بالمعتقلين الضحايا، معيار تفوق بعضهم على الآخر. إنه لا ينفصل عن الوظيفة الجديدة التي أنيطت بالنظام الاعتقالي، السياسي والمدني، الذي تقوم بخدمته فروع أمنية، وسجون تقليدية، وغرف تعذيب لمليشيات متعدّدة، في سياق الحرب الشاملة التي صمم النظام القائم على خوضها لوضع حد لثورةٍ شعبيةٍ بدت منتصرة بكل الحسابات. هكذا تغيرت وظيفة السجون ومناهج عملها إذا صحّ التعبير، فلم تعد منظومات إعادة تأهيل “للمنحرفين”، وتحولت من أماكن احتجاز مؤقت لموقوفين، معارضين أو جناة مدنيين، إلى ساحةٍ إضافيةٍ لحرب الإبادة التي تجري على الساحات العديدة الأخرى، كل منها بوسائلها ومناهجها الخاصة. ومن الواضح أن المعتقلات هي التي اختصت بنوع القتل الأكثر شناعةً وقسوة، حيث تعيش الضحية موتها كل ساعة وكل ثانية على مدى أشهر، قبل أن يأتي ملاك الموت لتحقيق الخلاص.
لا تختلف مهمة سجون الموت و”رسالتها”، من حيث المبدأ، عن مهام الأساليب الأخرى للقتل، سواء كان بالغازات الكيميائية، أو بالبراميل المتفجّرة التي تستهدف المدنيين ومرافق حياتهم الحيوية، أو بحصارات التجويع والتركيع، أو بالهجمات العسكرية التقليدية ومخلفاتها من
المجازر الجماعية. تكمن خصوصيتها فقط في خصوصية ضحاياها من الناشطين الفعليين، أو المحتملين، وفي شخصنة القتل وفردنته، وتحويله إلى عبرة ودرس لا ينسى، ولا يكف عن ملاحقة الذاكرة وجلدها وتغذية مشاعر الحقد والكراهية والانتقام، التي لا بديل لها في إعادة إنتاج وتعميق الدوافع والسلوكات العدوانية لفاعليها. هدفها الرئيسي هو “كسر العظم”، واستبعاد أي تسوية أو مصالحة أو حوار بين الفرقاء وتأكيد مبدأ: قاتلا أو مقتولا، أي الذهاب في العداء والعنف المرافق له إلى حالاته التي لا رجعة بعدها.
هكذا لم يقتصر دور المعتقلات السورية على فتح جبهةٍ حربيةٍ موازيةٍ ومكملة للجبهات الأخرى، تخصّصت بالقضاء، بالدرجة الأولى، على جيل النشطاء الذي فجر الثورة، أو ساهم في استمرارها، من خلال نشاطاته التنظيمية والفكرية والإعلامية، فحسب، ولكنه عمل بشكل أكبر على بناء جدار الحقد والعداء الدائم، وتغذية ضرع الكراهية وروح الانتقام الذي سوف يسمّم حياة السوريين لحقبة طويلة قادمة.
لا أحد يعرف بالضبط عدد الذين قضوا على هذه الجبهة، فقد أحصت الشبكة العربية لحقوق الإنسان أكثر من 98 ألف مغيب، لا يعرف مصيرهم. ولكن هذا الرقم لا يقدر أعداد المفقودين الذين لم تستطع الشبكة معرفة أسمائهم. ولعل الرقم تجاوز، حسب الشهادات المتقاطعة، مئة وخمسين إلى مئتي ألف ضحية، قضوا تحت التعذيب في ما سمّته منظمة العفو الدولية نفسها مسالخ بشرية. وقد قتلوا بطرقٍ وظروف مشابهةٍ للتي رواها وائل الزهراوي، وقبله قيصر وآخرون. لم يعدموا ولكن مثّل بهم حتى لا يبقى لحياة الإنسان قيمة أو معنى. وحتى تصبح حياة الإنسان، كما هي حقيقة في ظل نظام تأبيد السلطة العائلية، كحياة أي حشرة أخرى.
في روايته/ شهادته، المخضّبة بالألم والدم والدموع، لم يكفّ المؤلف عن التساؤل عن معنى هذا التعذيب ومجانيته. لماذا تضرب الضحية حتى الموت، وتقطع أوصالها وتكسرعظامها؟ ولماذا التمثيل بجسد الضحية، وحرمان الضحايا من الطعام أسابيع حتى يموتوا من الجوع، ما داموا قد حُكموا سلفا بالإعدام؟ ولماذا الحرص على إذلالهم وإهانتهم بإجبارهم على أكل برازهم قبل قتلهم وتصفيتهم؟ ماذا يفيد التعذيب؟
الجواب: ما استهدفه نظام التعذيب “المجاني” في الواقع هو أقل عبثيةً مما يبدو في الظاهر. إنه الرغبة في عدم الاكتفاء بإعدام الحاضر، وإنما العمل على تقويض المستقبل، وترك المجتمع السوري الذي لفظ تأبيده حكمه كما أراد، في العراء والفوضى الشاملة. ما لم نحفر عميقا لاقتلاع آثار هذه الريح الهمجية المنبعثة من قبور دارسة، ونعمل على إعادة بناء الجسور ومعالجة الصدمة الإنسانية وفورة المشاعر السلبية ونكشف عن مكامن الجنون والعدمية، لن يكون هناك أي أمل في التعافي من هول الفاجعة، والعودة إلى تطبيع العلاقات الاجتماعية. سوف يسكن هذا الجرح الفاغر فاه طويلا في نفوسنا، ولن يلأمه سوى تطبيق العدالة وتعبيد الطريق نحو حكم القانون والحق والمدنية.
المصدر: العربي الجديد