الثورة السورية وأحوالها ..
عقاب يحيى
تتهاطل الأسئلة والمقالات والدراسات حول مآل الثورة السورية، ويتركز سؤال محوري يقول: هل فشلت وانهزمت الثورة السورية فعلاً ؟؟..
في شهر أيار 2015 عقدنا ورشة، برعاية الائتلاف، تحت عنوان : الثورة السورية المسارات والحصائل، كان الهدف منها القيام بعملية تقويمية لمسار الثورة عبر تلك السنوات، والتركيز على الجوانب السلبية والفجوات التي ظهرت، وقد شارك فيها عدد هام من المفكرين والسياسيين والناشطين الذين يمثلون طيفاً مختلفاً، إضافة إلى بعض العرب المنتمين لها . وقد قدّم عدد منهم آراءه مكتوبة، فطبعت في كتاب إلى جانب المداخلات، وكان الحرص كبيراً أن تنشر كما هي دون تدخل من قبلنا . تأكيداً على أن النقد يجب أن يكون نهجنا للتعرف بشجاعة على الأسباب الذاتية، بشكل خاص، التي منعت انتصار الثورة، وأدّت إلى عديد التشوّهات والانحرافات التي ظهرت، وواقع المعارضة والهيئات القائمة .
في بدايات الثورة، ومع ذلك الفرح الغامر بقيامها الذي فاجأ الكثير، وأولهم قوى المعارضة التقليدية، وطابعها السلمي، الشعبي، كان الخوف يتملّكني من محاولات الحرف، ووضع العراقيل، والإفشال، وكتبت مقالاً بعنوان الزلزال السوري اعتبرت فيه الثورة زلزالاً شاملاً لن يقتصر على سورية، بل على عموم المنطقة، وأن الهزّات الارتدادية له ستكون في عدد من البلدان المحيطة، ومنها إلى بقية الدول العربية، والجوارية .. لأن الثورة سورية، وسورية كانت على الدوام ليس قلب العروبة النابض وحسب، بل مفتاح التغييرات، وبيتها، ومحفّزها، وأن قيام نظام تعددي ديمقراطي يطلق العنان للشخصية السورية المبدعة سيُنظر إليه بعين الخطورة من أطراف عديدة في المنطقة، ومن “إسرائيل”، وأمريكا، وغيرهم، وإيران بالقطع، ولهذا سيحاول هؤلاء منع الانتصار، أو احتواء الثورة، أو التدخل الفاحش في مسارها وبناها.. وهو ما حصل فعلاً، وما يمثل عاملاً مهماً، بل حاسماً بما آلت إليه .
لكن لا يمكن وضع مسؤولية النتائج على العوامل الخارجية فقط، إذ رغم أهميتها وما فعلت، ورغم خذلان المجتمع الدولي وتواطؤه في الجوهر، وخلبية الوعود التي أطلقت، وسقوط الرهانات عليه، وما أنتجت، فإن العامل الذاتي هو الأساس والمنطلق، والذي لا يمكن الهروب من دوره وترحيله بحجة العوامل الخارجية .
ـ افتقدت الثورة منذ قيامها إلى قيادة مركزية لها، وفي حين كان البعض يفاخر بهذه الخصيصة فقد أظهرت السنوات أثر تلك الفجوة في حالة الفوضى وانتشار آلاف التنسيقيات والأشكال المتنافسة، والمتضاربة أحياناً، وبرز هذا الإشكال فاقعاً في مرحلة العَسكرة وما تلاها، في حين أن القوى السياسية المعارضة التي التحق معظمها بالثورة، لم تكن قادرة على فعل القيادة لأسباب بنيوية تتعلق بأزماتها، وما فعله النظام بها عبر سنوات الاعتقال والمطاردة والحصار والتصحّر السياسي، وحاولت احتلال مواقع القيادة في الهيئات التي قامت وفق خليطة غير متجانسة مع ما يعرف بالحراك الثوري، فبرزت الفجوات متعددة .
ـ يجب التوقف هنا عند الرهانات على الخارج وما أنتجت، فقد تخيّل عديد القيادات في المجلس الوطني، وفي الائتلاف، بعده، وفي معظم قوى المعارضة أن التدخل الخارجي قادم، وسيكون حاسماً، على غرار الحالة الليبية، وعلى هذا الرهان بُنيت سياسات ومواقف كان لها ابلغ الأثر في توهان القرار الوطني، ثم غيابه على حساب الدور الخارجي، وصراعات الهيئات على مقاعد المسؤولية، والابتعاد عن التواصل مع الشعب وفعالياته .
ـ وحين تشكّل الجيش الحر كحالة دفاع عن النفس، وحماية المتظاهرين كانت الفجوة الرئيسة فيه تلك الفوضى والعفوية، تماماً كالتنسيقيات وانتشارها، دون وجود قيادة مركزية، أو خطة عمل إستراتيجية، وهنا برز الدور الخارجي في وضع المصدّات المانعة لوحدة العمل العسكري، ثم دخول عدد من الدول الإقليمية والخارجية على خط العَسكرة وتجاوز دورها في التمويل والتسليح إلى إنشاء فصائل عسكرية تدور في فلكها، وتتلقى الأوامر منها، وتطور هذه الوضعية باتجاه تصفية فصائل الجيش الحر، وتهميش معظم الضباط المنشقين، أو إجبارهم على الانخراط في الفصائل القائمة، والمتوالدة دوماً، فسيطرت شعارات ورايات الأسلمة التي أخذت الثورة إلى أمكنة أخرى تختلف عن بداياتها، وتشكيل بيئة قابلة لتوليد، وتفريخ الاتجاهات المتشددة، فالإرهابية التي تشابكت مفاعيل وجودها وسيطرتها بين هذه العوامل، وبين التصنيع الخارجي، واستخدام هذا الوضع من قبل عدد من الدول، وتعميم ما يعرف بمحاربة الإرهاب وما فعلت تلك الحروب، وما قامت به داعش وشقيقتها”هيئة تحرير الشام”، وهو حديث طويل وذو شجون .
ـ لقد كانت المعارضة تسيطر في فترة ما على نحو 70 بالمائة من الجغرافيا السورية، وكان السؤال المركزي.. لماذا لم تنجح الثورة في إسقاط النظام الذي كان يتهاوى؟، وهل السبب يُختصر بالتدخل الإيراني فقط أم يعود إلى واقع الشرذمة، وسياسة الاستئثار والاستحواز عند جلّ الفصائل؟، وما الذي كان يمنع وجود غرفة مشتركة، وأنواع من التنسيق بدل الصراعات والحروب البينية، وأثر هذا الواقع في حالة الانحسار، والتراجع، وقوفاً عند حلب والهزيمة فيها، ثم الخط التراجعي الذي يطرح أسئلة مهمة عن مصير الثورة والمستقبل، وعن القدرة على تحقيق الأهداف الرئيسة في تغيير النظام وإقامة البديل؟؟..
لقد فشل، وسقط الخيار العسكري كعامل حاسم في تحقيق الهدف، وقامت الدول المعنية الراعية له باحتوائه، والقيام بخطوات متلاحقة من الفكفكة، والإضعاف، ثم لقاءات الأستانا وموقعها في تحجيم الفصائل وفرض اتفاقات الأمر الواقع عليها ضمن ما يعرف بـ “مناطق واتفاقات خفض التصعيد” وحالة الانحسار المتتابعة في وجود الثورة والفصائل على الأرض ، وقوفاً عند وضع الغوطة ومصيرها الذي سيترك أبلغ الأثر على الثورة وفعاليتها وقدرتها على التأثير، وعلى الحل السياسي.
ـ وعلى سيرة الحل السياسي الذي قبل به المجلس الوطني”مجبراً” ثم الائتلاف، حين إعلان الموافقة على بيان جنيف 1، وبدء مسار المفاوضات الذي لم يقترب في كل جولاته من قرارات الشرعية الدولية بسبب رفض النظام المدعوم من روسيا…
فإن دحرجة متتالية حدثت في مضمونه باتجاهات ليست لصالح الثورة، ويتجلّى ذلك بوضوح في بيان فيينا 1، وفيينا 2، ثم في القرار الدولي 2254، ثم في الطبعة الحالية لمخرجات لقاء سوتشي، وقصة اللجنة الدستورية، والسلال الأربع ومصيرها. لقد كان الرهان يتركز على تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وهي التي ستتفرّع عنها مجموعة من المهام والهيئات، كبناء أجهزة الأمن، والجيش، وتشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور جديد يطرح على الاستفتاء الشعبي، أو يقرّ من قبل مؤتمر وطني عام، وقد تزحلقت ثم غابت ضمن حصر المفاوضات على ” سلتين”: الدستور والانتخابات، ثم طرح صيغ فضفاضة عمّا يسمى بإيجاد البيئة الآمنة والملائمة لإجراء الانتخابات، والتي تتعلق ببعض البنود التي كانت ضمن مهام وصلاحيات هيئة الحكم الانتقالي.
ـ نحن أمام خط تراجعي واضح على هذا الصعيد، بينما يواجه الشعب الذي ثار مجموعة تعقيدات كالحصار، وحالات الإحباط، ووضع الهيئات القائمة، خاصة الائتلاف، العجز عن القيام بدوره القيادي المأمول، إلى جانب أوضاع النزوح واللجوء والهجرة وغياب الأفق الذي يحمل أملاً بحل سياسي قريب .
ـ مع ذلك ما تزال الثورة حيّة في قلوب وفكر وحركة ملايين السوريين، المؤمنين بالاستمرار والصمود والتصميم حتى تحقيق الأهداف، وهذه حقيقة، واستناد رئيس يجب الارتكاز عليه من قبل هيئات الثورة، ووضع برنامج عمل واقعي يتيح تفعيل العلاقات مع أطياف الشعب السوري وحراكه، وتقوية العامل الذاتي وفق مهام قابلة للتحقيق تستعيد القرار الوطني، وتمنح القدرة على توحيد الجهود ضمن اصطفاف وطني عريض يمكنه أن ينتزع حقوق الشعب، ويوفر مقومات فرض حل سياسي مقبول.