حصاد 8 سنوات للثورة السورية
د. بدر جاموس
خلال ثماني سنوات استثنائية من تاريخ سوريا والمنطقة عشنا وعاش العالم معنا سلسلة من الأحداث والتطورات المترابطة والمتراكبة، أحداث فاجأت البعض وفاقت توقعات آخرين، ورغم أن الثورة السورية انطلقت في إطار الربيع العربي، إلا أنها جاءت أيضاً كحدث مفاجئ لم يجرؤ كثيرون على توقعه، نظراً لما يعرفونه عن نظام عائلة الأسد وقدرته على الإجرام والتوحش.
على طول الطريق واجهت الثورة السورية التحديات والصعوبات منذ انطلاقها وتطورها من مرحلة النشاط والعمل السلمي إلى مرحلة النضال المسلح والتدخلات الخارجية وصولاً إلى تحول القضية إلى ملف ذي أبعاد إقليمية ودولية مترامية تتشابك فيها مصالح مختلف الأطراف بأشكال تدفع البعض للحيرة.
أي محاولة حيادية لسبر وقائع السنوات الثماني لن تتمكن من تجنب الحديث عن قمع النظام وعن وحشيته وعن تحالفاته وعن داعميه، لن يمكنها أن تتجاوز الخسائر البشرية الهائلة، مئات آلاف الشهداء والضحايا، الجرحى والمعوقين، وعشرات آلاف المعتقلين، لن تغيب عنها صور القصف الجوي والبراميل المتفجرة والدمار الرهيب للمدن والبلدات والقرى، ولا مشاهد الحصار الخانق ولا قصص اللاجئين والمهجرين المؤلمة.. ولا الجروح العميقة والصدمات النفسية التي طالت النسيج الاجتماعي.
إن قراءة وفهم الوقائع والمعطيات من مختلف الأوجه تمثل ضرورة لا بديل عنها لتعزيز قدرة السوريين على المساهمة في التحكم بالمسار وبالنتائج، لذلك لا بد أيضاً من دراسة الجوانب التي أخفقنا فيها نحن أيضاً.
علينا آن نأخذ في عين الاعتبار أننا لا يمكن أن نعيد الكرة ونبدأ من الصفر في كل مرة، بل أن نتابع ونستمر في البناء فوق ما تم إنجازه، ونتجاوز الأخطاء بقدر المستطاع، وأن نقوم بتقويم أدائنا والمبادرة إلى التعامل مع المشكلات من خلال إحساس كل شخص بمسؤوليته وبدوره.
لكن إدراك ومراجعة دورنا ومسؤولياتنا لا يمنعنا من توضيح مسؤوليات الآخرين ودورهم المحوري في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، كثير من الثوار ضحوا بأنفسهم وبذلوا كل ما في استطاعتهم لتوثيق انتهاكات النظام وجرائمه وقمعه ووحشيته من أجل إيصالها إلى العالم، متصورين أن مجرد وصول تلك الصور والمقاطع سيحرك العالم وسيجبر المجتمع الدولي على التدخل لإنقاذ المدنيين ودعم حقوق الشعب السوري.
لكن الأمور لم تسر على ذلك النحو، ولا يزال المجتمع الدولي حتى اليوم يعاني من الشلل وعدم الجدية في مواجهة الواقع الذي جره نظام الأسد على المنطقة والعالم. ولا يدركون حقيقة المخاطر التي ستترتب على عدم دعم العملية السياسية بالطريقة الصحيحة أو ترك النظام وداعميه يتحكمون في إيقاعها وتشتيت مساراتها والاستمرار في أخذ طرق التفافية حولها.
لم يقتصر الأمر على عدم الجدية، فكثير من الدول عمدت إلى التخلص من متطرفيها عبر إرسالهم وتجميعهم في سورية، أو على الأقل غض الطرف عن تحركاتهم، وأصبح السوريون في صراع متعدد الجهات، يواجهون إرهاب الأسد وإرهاب الميليشيات الطائفية المتحالفة معه من جهة، وإرهاب المتطرفين من جهة أخرى.. وقد أثر ذلك كثيراً على بوصلة العمل المسلح، وساهم في تشتيت الجهود وخلط الأوراق وتأخير وصولنا لمبتغانا وتحقيق أهدافنا.
وفي الوقت الذي توجهت فيه قوى الثورة والمعارضة وآمنت بإمكانية إنجاح حل سياسي حقيقي، انهمك النظام وحلفاؤه في إجهاض الحل السياسي، وتجاوز الاستحقاقات القانونية والدولية والسياسية المتعلقة بالحل العادل في سوريا.
لقد ضرب النظام عرض الحائط بجميع قرارات مجلس الأمن وكل المبادرات الدولية، ولم يلتزم بأي وقف للعمليات العسكرية، واستجلب ميليشيات أجنبية طائفية ومرتزقة إيرانيين ليرتكبوا المجازر والجرائم بمنتهى الوحشية.
منذ تأسيسه اعتمد نظام الأسد منهج الإرهاب الموجه ضد الشعب، حملاته الهمجية على الغوطة الشرقية والغربية ودرعا وحمص وحلب وباقي مدن وبلدات سورية كانت إعلانات صريحة وواضحة أنه ليس في حالة تفاوض ولا يفكر بأي حل سياسي، بل يريد قتل فرص هذا الحل وإجهاض أي مسار يمكن أن يفضي إليه.
يدرك السوريون أن المجتمع الدولي مسؤول بشكل أو بآخر عما وصلت إليه الأوضاع في بلدهم، لم يكن النظام ليتجاوز كل الخطوط الحمراء الواحد تلو الآخر، لو لا إدراكه بأن فشكل المجتمع الدولي في صون الخط الأحمر الأول لن يكون الأخير. وأن قتل المدنيين بالرصاص.. لن يختلف عن قتلهم بالبراميل ولا تحت سياط التعذيب.. ولا بالأسلحة الكيميائية.
حرب الإبادة الجماعية والاعتداءات الهمجية على أهالي الغوطة ما كانت لتقع لو لا المواقف الدولية الهزيلة ولولا سكوت الدول «الراعية» للحل السياسي. العنصر الرئيسي في خطة النظام استند إلى مجتمع دولي متردد. هذا الواقع هو ما يدفعنا إلى القول بأن الخلل في مسار العملية السياسية يقوم على عنصرين رئيسيين: الأول هو رفض النظام للدخول في عملية تفاوضية حقيقة، والثاني هو فشل المجتمع الدولي في فرض الحل السياسي، وإذا كان رفض النظام أمراً متوقعاً ويصعب تعديله من دون الضغط الدولي، فإن فشل المجتمع الدولي أمر قابل للتغيير ومن الممكن في حال النجاح في التأثير عليه أن يتم من خلاله فرض ضغوط حقيقية على النظام لتلجمه وتجبره على الرضوخ.
وإذا سلمنا أن التدخلات الدولية باتت أمراً واقعاً على الساحة الدولية المعاصرة، وأننا نعيش في عالم مترابط أشبه بكتلة واحدة تتأثر أجزاؤها وتؤثر ببعضها البعض، فإننا النتائج التي ستترتب على أي محاولة لإعادة فرض النظام أو ترك جرائمه دون عقاب ستكون شديدة الخطورة، فهي ستكرس حالة الظلم وستفتح الباب أمام عالم يمارس فيه مجرمو الحرب جرائمهم دون خوف من أي عواقب، أمر يجب على أن نستمر في تحذير المجتمع الدولي من عواقبه وتأثيره على مصالحه وينطلق منه نحو الحل السياسي النهائي في سوريا. خيار السوريين هو الحرية والكرامة والعدالة، ثورتهم مستمرة ورهانهم يقوم على الالتزام بمبادئهم وتطلعاتهم مقابل رهان الطرف الآخر على الإجرام والخيانة والقتل والتعذيب والتهجير والحصار والأسلحة الكيميائية.
صمود السوريين كان العامل الأهم في مواجهة ماكينة القتل التي يشغلها النظام والميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، وهذا هو الجانب الذي نراهن عليه، وهو الذي يجب أن يستمر على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، صمودنا والتفافنا حول أهداف الثورة الرئيسية، هو أكثر ما يخشاه أعداؤنا، إنها هذه الروح التي تتجدد في قلوب الثوار، وهذه القدرة المتكررة على التكيف مع أصعب الظروف.
ملايين السوريين في المناطق التي أعيد فرض استبداد نظام الأسد فيها ما زالوا يتوقون للحرية ويؤمنون بحقهم بالكرامة والعدالة، وما زالت الرؤية التي ثاروا من أجل تحقيقها ماثلة أمام أعينهم: وطن حر يحترم الإنسان ويرعى تطلعاته وحقوقه، يدفعه للنمو والإبداع، وطن يتوق أهله للعيش فيه لا للفرار منه.
يمثل هؤلاء السوريون دعامة من دعامات الثورة، وركنا من أركان انتصارها، إلى جانب جميع السوريين في الداخل والخارج، إني أدعو جميع السوريين في هذه الذكرى العزيزة على قلوبنا إلى الاستمرار في الحراك الداعم لأهداف الثورة بما هو متوفر من أدوات ووسائل، ومنحها الأولوية القصوى من الاهتمام والمشاركة والدفع من أجل توحيد الجهود.
إن تحريك عجلة المجتمع الدولي يعتمد علينا وعلى إصرارنا وكفاحنا… الجهود المستمرة التي نبذلها هي صاحبة الكلمة النهائية، جهود المواطنين العاديين في عملهم وصمودهم وكفاحهم من أجل الحياة الكريمة، جهود منظمات المجتمع المدني وأفكارها الإبداعية المستمرة.. جهود المجالس المحلية.. وكذلك الجهود التي تبذلها الحكومة السورية المؤقتة من خلال وزاراتها ومديرياتها في مختلف المناطق.. هذه الجهود بالتضافر مع الجيش الوطني السوري، هي صاحبة الكلمة الفصل.
اليوم، يمكننا، نحن السوريين، أن نمسك بزمام الأمور مجدداً، أن نحدد مصيرنا بأنفسنا، أن نتحرك في إطار الممكن، وأي دعم نتلقاه إنما يتوقف على الجهود التي نبذلها نحن أولاً، فإذا ما تعاوننا ووضعنا ثقتنا في المكان المناسب فإن النتائج ستكون في صالحنا. عملنا المستمر هو كل ما يمكننا أن نراهن عليه.
المصدر: القدس العربي