عن خلود الديكتاتوريات وموتها المحتم
ماجد الشيخ
سرديات الإصلاح الموعودة منذ عشرات السنين يُعاد تكرارها اليوم، وكل يوم، على مسامع شعوبنا، كلما أراد السلطان، صاحب الصولجان الاستبدادي، أن يجدّد لنفسه ولنظامه المهترئ، “أبداً” جديداً لا ينتهي بغير موت الديكتاتور أو سقوطه، وصعود آخر منصة السلطة “الأبدية”، أو الأحرى العدمية، وبعدها لا شيء سوى الخراب، فمافيات السلطة الأوليغارشية الحاكمة لا تستطيع أن تُقدم على أي خطوةٍ إصلاحية، واضعة إياها برسم التأجيل الدائم، لا سيما إذا كانت تناقض مصالحها وتعاندها، والأفضل لها، في هذه الحالة؛ حفاظها على استاتيك لا يعرض تلك المصالح للخطر.
لذلك يأبى الديكتاتور إلا أن يبقى في صدارة المشهد على الدوام، حتى وهو يشارف على الفناء، والرحيل عن هذه الدنيا؛ فمن “المعيب” في رأيه أن يتحوّل إلى “زعيم سابق”، أو أن يرى زعيماً لاحقاً ينافسه على ملكيته الدولة، واستملاكه لها وللناس، وهم يلهجون باسمه، ويهابون سلطويته الشمولية، وهي تتقدّم مواكب العرس الانتخابي، صعوداً نحو العرش الاستبدادي.
هكذا هم ديكتاتوريو السلطة، سلطة الدولة التي يغيّبها الزعيم بسلطته القاهرة، وبإكراهات أمثاله الصغار من ديكتاتوريي السلطة العميقة، وهم يهيئون مسرح الدولة، لبقاء ديكتاتورهم واستمراره، وقد حولوه، مع الوقت، إلى طوطم يمثل دور “رب عملٍ”، فاقت ربوبيته كل الأرباب؛ الأمر الذي يتحول معه إلى مشروع استثمار عظيم، محوّلاً الدولة إلى شركةٍ خاصة؛ “شركة الزعامة الديكتاتورية الخالدة”، ومن خلودها ينتج الزعماء، على الدوام، آليات استقرارٍ لا مثيل لها في عالم السلطويات التي اختالت وتختال في “مراحات الأبد”، من دون أن تدرك
أن حُماتها ليسوا من طينة الأبد دائماً، بل من طينة الاستثمار المصلحي، أو الزبائني، وهذا ما قد لا يعوّل عليه على الدوام، أو حتى في مستقبلٍ طويل، أو قد لا يطول.
أما الأمر في بلادنا فهو لا يتخارج عن ترديد ببغاواتٍ غبيةٍ لشعاراتٍ من قبيل “ديكتاتورنا إلى الأبد، ديكتاتورنا أو نحرق البلد”، وهناك بالفعل من أحرق البلد، بل الوطن، من أجل أن يهنأ ديكتاتورهم النيروني، وهو يحرق الوطن على قاعدة “السلطة أهم من البلد”.
قد لا تفضي ثورات التغيير أو الانتفاضات الشعبية إلى تحقق أهدافها دفعة واحدة، أو شق طرق ثورية لإطاحة أعمدة النظام القديم، فهذا دونه وجوب قيام ثورة أو ثورات موازية، ضد أيديولوجيات قوى الثورة، أو الثورات المضادة التي دائماً ما وقفت حجر عثرة أمام التغيير والحداثة وقيم التنوير، وتلك هي المعضلة الرئيسة التي أفشلت ثورات الربيع العربي من بين أسباب عديدة، ما زالت تتكرّر في عديد من بلداننا المتحفزة للانتقال من حالات الركود إلى حالات الحراك الثوري التراكمي، وهنا منبع التحولات غير المرئية، وهي تختمر وتعمّق وتعتّق سياسات تنظيمية وجماهيرية تقودها، وتندفع بها إلى الأمام، لمواجهة كل قوى الثورة المضادة السلطوية الحاكمة، وتلك الدينية المتسلطة أيديولوجياً، والمتحفّزة دائماً للهجوم وقطع الطريق على أهداف التغيير والثورة، كما حصل في الجولة الأولى من ثورات الربيع العربي، حين جرى إفشالها ووصمها بالإرهاب والتوحش، وهذا ما توافقت عليه قوى الثورة المضادة كلها، سلطوية وأيديولوجية، فجنّدت كل قواها من أجل الاحتفاظ بسلطوّيتها الشمولية الغادرة.
ومثلما لا تقيم ديكتاتوريات السلطة أي وزنٍ أو قيمة، لسلطة القانون والحريات وحقوق الناس وكراماتهم، أفراداً وجماعات، كذلك أهل السلطة العميقة يقيمون أستاراً وحواجز مضافة بينهم وبين الناس، وحتى بينهم وبين “البغ بوس” الديكتاتور نفسه، وهو الغائب أو المغيّب، لعلةٍ لديه، أو لعلل استملاكه سلطةً يترفع بها عن آدمية البشر، مهما يكن شأن الرفض الشعبي لاستمراره زعيماً للعدم الأبدي.
وفي هذا المجال، تتعدّد أنماط الديكتاتوريات السلطوية الحاكمة، بتعدّد الشخوص وقوى إسنادها من قواعد سلطة عميقة، بارزة ومستترة، كقواعد اجتماعية، تنتمي إلى المؤسسات العسكرية والأمنية والحزبية الموالية، ومنها من ينتمي إلى عالم الاقتصاد؛ اقتصاد السلطة القائم على هندسة طبقاتٍ اجتماعيةٍ موالية، تستخدم لدى بعض الأنظمة، مثال الأنظمة الحزبية القوموية والعسكرية، لقمع كل حراكٍ شعبيٍّ يجري توصيفه بما ليس فيه، حتى باتت الدساتير والتعديلات الدستورية تصاغ وفق هوى الديكتاتور، ونخب السلطة المستفيدة من تربّعه على عرش الاستبداد المقيم. علماً أن ليس كل ديكتاتور يمتلك خاصية وكاريزما السلطة بذاته ولذاته، ولكن استناداً إلى طغم ونخب أوليغارشية، تمارس هيمنتها على كل شاردةٍ وواردةٍ، كما رأينا في حال النظام المصري، وأخيراً كما في حال النظام الجزائري. أما في حال النظام السوري؛ فحدث ولا
حرج، فالأمور هناك أعقد كثيراً مما يجري تصويره وكأنه سيادة النظام الأمني على الدولة والوطن، ففي ظل أحاديات السلطة، ودعمها الخارجي الإقليمي والدولي، لا يمكن الحديث عن سيادة دولةٍ على وطنها ومواطنيها، وبالتالي فهي تفتقد كامل أهليتها لصياغة أية قوانين دستورية، في غياب إرادة شعبية حرة ومستقلة حقا عن مكونات النظام الأمني الحاكم، اليد الطولى لديكتاتورية استبدادٍ تطمح أن تبقى إلى الأبد.
مثل هذا النموذج الأخير لسلطة الأبد المحصورة بشخص الديكتاتور الذي لم يع ذاته رئيساً لدولة، بقدر ما جرى تعيينه زعيماً خصوصياً لدولةٍ استملاكيةٍ جرى توريثها له، يعتقد بعضهم من الأنظمة البوليسية العربية المشابهة، أو المماثلة مع بعض التعديلات أو الإضافات، أنه قادر على قهر الحراكات الشعبية، وقمعها وإخمادها، كما فعل النظام السوري، ناسين أو متناسين أن الدعم الخارجي الاقليمي والدولي ليس جاهزاً على الدوام لتأمين حماية الديكتاتوريات الأقل أهمية وإسنادها؛ ولولا جيرة النظام السوري فلسطين المحتلة ووجود كيان الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي فيها، لما كان الطلب الدولي والإقليمي على بقاء النظام من ضرورات إبقائه، واستخدامه في إطار توزيع مغانم الهيمنة الكولونيالية الغربية في بلادنا وحصصها، تأميناً لبقاء الأمن الإسرائيلي سيد التوزيع غير العادل لتحاصصات البقاء عند خطوط الدفاعات الاستراتيجية الهامة لدول غربية وشرقية، تستنفر قواها لتهبّ اليوم دفاعاً عن مصالحها الكولونيالية، والإبقاء على ديكتاتوريات استبداد شمولية، تحاول ترقيع صورتها المنهارة لدى شعوبها.
المصدر: العربي الجديد