لماذا أصبح الساروت أيقونة ثورية؟
نارمين الخليفة
أشهر قليلة تفصلني عن آخر مظاهرة شاركت فيها وقادها الساروت في مدينة إدلب، كنت سعيدة بلا شك بحضوره المفاجئ وبقسم الثورة الذي تعلق في رقبتي فيما بدأت الثورة تخبو في النفوس، ذاك الشعور في حضرة وجوده ورغم إبهاره ليس بنفس الرهبة التي أحسها الآن في حضرة غيابه الكثير من التساؤلات والمشاعر المضطربة تدور داخلي أنا والكثير من أبناء الثورة السورية، أحاول ترتيبها علي أصل إلى اليقين الذي أنشده بعد موجات التشكيك واليأس التي تجتاحنا نحن العالقون بين الموت والحياة.
لماذا الآن حضر الفارس الأسمر فيما غاب عن وجداننا لسنوات ماضية، وما سر هذه المحبة والالتفاف الذي لاقاه من السوريين الآن بعد أن انفضوا عنه وعن ثورته قبل أن يلفه تراب أرضهم التي أخلص لها، أم كان القشة التي يتعلق بها غرقى الاتفاقيات المنقوضة قبل إبرامها؟
كيف يمكن أن أفك شيفرة الأسطورة كما أحب أن أسميها ” الساروت ” بكل بساطتها وعفويتها ووضوحها، فهل عبد الباسط أيقونة ثورية وكيف أصبح كذلك، وهل يمكن أن نتجاوز موت آخر الفرسان الشجعان بغير النسيان؟
البطل الشعبي
استفاق الشعب السوري في صبح الثامن من حزيران لعام 2019 على فاجعة استشهاد ابن حمص السورية عبد الباسط الساروت بعد إصابته بيومين على أرض ريف حماه في صد عدوان القوات الروسية ونظام بشار الأسد.
ولن أتحدث هنا عن تاريخه الثوري وتضحياته على درب الثورة المحفوف بالموت كيفما اتجه، فقد كتبت الكثير من الرثائيات والمقالات التي تسرد مراحل حياته بالتفصيل، بل سأحاول أن أنقل مشاعر الناس المكلومة بفقد بطلها الذي لم تكتشف عظمته إلى يوم رحيله، ربما ليس الموضوع غريباً فطالما كانت الكلمات تقتات على قلوب أصحابها، وباستمرار صدقت الدماء الأفعال وأنبتت الأزهار في قلوب الأجيال.
كانت فجيعتنا في ذلك الصباح رهيبة، توقف الزمن كثيراً وتمنينا أن يبقى متوقفاً للأبد، كيف لحناجرنا أن تحمل كل هذا الإرث من الدماء بدون أن تنضح بها حنجرة الساروت في كل محفل، كيف لأيدينا المتعبة أن تواصل القتال وقد سقطت البندقية من الزنود السُمر، من سيضمر خصره إذا جعنا، من سيحمل عنا حقائبنا الصغيرة والغالية إذا هجرنا، من سيبرد معنا إذا نمنا في العراء، من سيتنفس معنا بعض المرح إذا قررنا أن نلعب الكرة ويراقب مبتسماً من بعيد شباك مرمانا ويرابط لا يبرح مرمى ثورتنا، كيف لظهرنا المكسور أن يحمل ثقل أمانة الشهداء بدونه، وذاك الحلم الذي نموت ألوفاً ألوفاً خلفه ” حلم الحرية” كيف سنطارده ونحن الذين قصت أجنحتنا وتهتكت ركبنا بفقد الساروت وأمثاله؟
هكذا كان باسط مع أبناء بلده في أول يوم بالثورة وكذلك بقي باسط إلى آخر يوم له في الحياة، بسيطاً كضحكة طفل، واضحاً كضوء الشمس، نقياً كقطرة طل، ثابتاً كمجرى نهر، صدق أهل بلده فصدقوه المحبة وخرجوا ألوفاً في وداعه، ولكن إلى هذا الحد يمكن أن يصبح البدوي الشجاع الأسمر الشهم البسيط أنموذجاً لشباب سوريا المتعدد الإيديولوجيات ومختلف التوجهات؟
بالنسبة لي وللكثير ممن أعرفهم على الأقل أستطيع أن أقول بأننا بشكل واعي ومقصود نقوم بتصدير الساروت أيقونة ثورية وبطلاً شعبياً، أي أن الأمر ليس محض عاطفة جياشة تموج بشكل عفوي.
نعم نحن نمجد الساروت لغاية في نفس يعقوب يأتي على رأسها:
- استعادة الحاضنة الشعبية للثوار وعودة الثقة المفقودة منذ تلك الحروب الهامشية والاقتتالات الغبية التي بددت الجهود وأضاعت البوصلة ووضعت الشعب في عنق الزجاجة مخنوقاً بحسرته. نحن كلنا بحاجة أن نرى في الثوار الصدق والإخلاص، الشرف والأمانة، أن نراهم أصحاب القضية الذين يبيتون قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم يحرسون زهر الشهداء وزيتون الشهداء، لا يمنون علينا جهادهم رغم ضيق الحال ونكران الأهل وظلم المتنفذين، حتى نفرق وتفرق حاضنتا بين الغث والثمين، فنتوخى أضعف الإيمان ألا نخوض في أعراضهم ونرصد سقطاتهم ونتجنب بلاء التعميم الذي يوسع الهوة يوماً بعد يوم بين الأهل والأبناء.
- على التوازي فإن الساروت برمزيه غدا بطاقة وصول للثورة السورية، تحرك مستنقع النسيان كلما ماتت الذاكرة، لنقول للعالم هذه ثورتنا، ثورة الشعب المظلوم على نظام الاستبداد والقمع، ثورة الحقوق لحياة كريمة على قاتلي الحياة، ثورة دافعت عن حقها في الوجود ولم تُجرم رغم
حزانى بل سعداء
كيف يمكن ألا نحزن على رجل مثل بمفرده ثورة أكثر من مليون شهيد ومئات الآلاف من المعتقلين وملايين المشردين، كيف سنتجاوز آهات فقده، حزانى كثيراً يا أخي ويمكن لنسائنا أن يكنّ نائحات أبديات بالمجان، وبقدر كل هذا الحزن والأسى فنحن سعداء، نحن فخورون لكون الساروت خرج أيقونة من بين أظهرنا في هذا العصر العاقر، سيكون الإيمان رفيق أبنائنا بمجدهم التليد الذي لم يمت بموت الصحابة ومازال ينبلج في كل عصر وما الساروت منهم ببعيد، كيف لا نسعد وقد رسم ورفاقه طريقاً واضحاً للأبناء يقتفونه لا يتيهون في ضبابية الدروب، ولا يسقطون في قيعان المغريات، لقد رسم لهم طريقاً للخلود والشهرة لا يمر بالتلفزيونات والملاعب والملاهي واليوتيوبر.
لما الساروت لا غيره أيقونة الثورة؟
غادرنا قبل الساروت الكثير من الشهداء والقادة الملهمين ورغم أنه كان فرداً واحداً ولم يترقى في المناصب ولكنه بفرديته أصبح الأيقونة، جاء موته في مرحلة عظيمة الخطوب، فوجود الثورة مهدد بالزوال على أرض سوريا على الأقل وحتى من نفوس كثير من أبنائها، تموج بقضيتنا خطوب جليلة من حروب داخلية وتشرذم فصائلي، انفضاض الحاضنة الشعبية عن الثوار، وفقدان الثقة بين العناصر وقاداتها، الهوة الكبيرة بين الشعب والنخب، والتصنيفات المقيتة من أهل الداخل والخارج، من ثوار الفنادق والبنادق، من ثوار 2011 إلى ثوار 2015، الخذلان العالمي بل التآمر العالمي على ثورة الشعب السوري، ولا ننسى تأثير الهزيمة النفسية لتهجير سكان سوريا الثائرين من مدنهم وتغيير جغرافيتها.
وفي حالة الموت السريرية هذه كأن دم باسط الذي دفق على أرض حماه قد سرى في عروق أبنائها اليائسين كما سرت كلماته في أجساد المتظاهرين صيحةً أولى للحرية، وكأن ذاك الصدق والثبات بعث الأمل الذي لم نرضى أن يموت يوماً لنكون صُنّاعه من دماء أحب الأحباب ومن صوت أشجع الفرسان.ماذا بعد الساروت؟
لا تنتهي الدروس والعبر والتجليات في حضرة حارس الثورة حياً وميتاً، ولكن يراودني سؤال مهم لابد من طرحه، ماذا لو هدأت الزوبعة التي ثارت بموت الثائر وخبت المشاعر وانطفأ سراج النور قبل أن تتحفز زنود وقلوب وعقول أبناء الثورة؟
حقيقة نحن فقط من نسمح للنسيان أن يحجر بتابوته على جثامين الشهداء المضيئة ، نحن فقط من نسمح للغياب أن يأخذ منا المآخذ ومن ثم نلعن الذاكرة، الأدوية التي تنعش الذاكرة كثيرة ورخيصة مقابل دماء الساروت ورفاقه التي أنعشت ذاكرتنا، عمل دؤوب يتوازى ويتناسب مع الإيمان الراسخ بالقضية، توثب نفوس أبناء الثورة في الداخل والخارج للإطلاق مبادرات متنوعة وفي كل الميادين، تصدر أيقوناتنا وتنشر مأثرها، تستقي الدروس من تضحياتها، وتحاول التعلم من أخطائها، مناهج دراسية تتغنى بتضحيات أهل القناديل، ترسم صورهم في قلوب ووجدان الأجيال القادمة، نشر الوعي بأهمية الالتفاف حول الصادقين من ثوارنا كأفراد وكقادة بدون إفراط أو تفريط، والأهم من ذلك اقتفاء أثر بطلنا في تقبل الآخر واحترام كل الجهود وتجاوز الصغائر والسعي نحو هدفنا في الحرية والكرامة كل في طريقه الذي اختار أما النتائج فقد تكون كتلك التي نالها الساروت ونحسبه من المقبولين.
المصدر: تلفزيون سوريا