من عنجر إلى حميميم: ودارت الأيام وكما تُدين تُدان
د. فيصل القاسم
عنجر قرية لبنانية تقع في قضاء زحلة في محافظة البقاع، تبعد عن العاصمة بيروت 60 كلم وهي في منتصف الطريق تقريباً بين بيروت ودمشق مع قربها من دمشق أكثر. وقد اكتسبت شهرتها ودخلت التاريخ ليس لأنها مدينة سياحية، بل لأنها كانت مقر الحاكم العسكري السوري أيام الاحتلال السوري للبنان. ومن أشهر الضباط السوريين الذين ارتبط اسمهم بعنجر اللواء غازي كنعان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع الذي حكم لبنان منذ عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين حتى ألفين وواحد، وكان الحاكم بأمره طبعاً نيابة عن حافظ الأسد في دمشق.
وكانت قرية عنجر محجاً للساسة اللبنانيين الذين كان معظمهم يعمل بوظيفة مخبر لدى البلاط الكنعاني. كانوا يتقاطرون زرافات زرافات إلى عنجر لتقديم فروض الطاعة والولاء، ولطالما كانوا يحملون الهدايا الثمينة للوالي السوري من الذهب وملايين الدولارات من أجل الوصول إلى منصب في بيروت أو لتمرير صفقة تجارية. كيف لا وقد كان غازي كنعان صانع الملوك في لبنان، فهو الذي يختار أعضاء مجلس النواب والوزراء والحكومة بعجرها وبجرها، وزيارة عنجر كانت ممراً إلزاميا للكثيرين لدخول النيابة أو الوزارة أو حتى الرئاسة. وهو الذي كان يُعز من يشاء ويهين من يشاء بوصفه ملك لبنان المتوج بالبسطار العسكري. ومن مآثره الشهيرة الإطاحة بميشيل عون الرئيس اللبناني الحالي الذي كان وقتها قائد الجيش اللبناني رئيس الحكومة العسكرية عام ألف وتسعمائة وتسعين.
لقد كانت عنجر وزوارها حسب كاتب لبناني «صفحات مذلة في تاريخنا السياسي الحديث حيث ضابط مخابرات سوري واحد أحد هو الحاكم والمتحكم بمصير الوطن. بدأ النظام السوري يتدخل في السياسة اللبنانية من أعلى المستويات إلى أصغرها، يتدخلون مع وزير الخارجية وفي نفس الوقت مع عريف في الدرك. أصبح غازي كنعان الحاكم الفعلي للبنان، انتخبوا الياس الهراوي رئيساً للجمهورية ومن ثم إميل لحود، وكان الرجلان مجرد دميتين بيد كنعان».
ثم جاء بعد كنعان ضابط سوري شهير آخر إلى عنجر وهو رستم غزالي الذي سار على خطى سلفه، لا بل زايد عليه أحياناً في اضطهاد اللبنانيين شعباً وقيادة، ومارس أسوأ أنواع الفساد والإفساد. وقد وصل به الأمر إلى التدخل في الجامعات اللبنانية والحصول على شهادات دكتوراه له ولأقاربه، ناهيك عن نهب بعض البنوك اللبنانية. وقد كان أبو عبدو ككنعان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان. وقد انتهى الرجلان قتلاً، حيث اغتالهما نظام الأسد لاحقاً لأسباب مختلفة.
وكما لكل شيء نهاية، فلقد كان اغتيال رئيس وزراء لبنان عام 2005 بداية النهاية ونقطة التحول الكبرى في مسيرة انهيار النظام السوري، ففي ذلك العام جاءت الأوامر الدولية بطرد الجيش السوري من لبنان ليبدأ التطور الدارويني المعكوس في مسيرة النظام، فبعد عشر سنوات تقريباً، اضطر النظام الفاشي إلى رهن سوريا لروسيا لحماية العرش الأسدي من السقوط، فتدخـّل الروس في سوريا في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر سنة ألفين وخمسة عشر من خلال قاعدتهم العسكرية بالساحل السوري بقرية حميميم، لتتحول هذه القاعدة إلى عنجر روسية في سوريا تتحكم بكل مفاصل الدولة السورية تماماً كما كانت عنجر السورية تتحكم بكل مفاصل الدولة اللبنانية لبنان. سبحان مغير الأحول، ذهب كنعان وغزالي وجامع جامع وجاء سيرجي وميخالوف وقسطنطين، لكن هذه المرة ليفعلوا بسوريا وقيادتها ما فعله كنعان وغزالي وجامع بلبنان ذات يوم. ومنذ دخولهم إلى سوريا ها هم يتعاملون مع القيادة السورية كما تعاملت القيادة السورية مع لبنان. وكلنا شاهد الرئيس السوري مشحوناً بطائرة بضائع إلى موسكو لمقابلة الرئيس الروسي بطريقة سرية، وتابعنا الأسد وهو يجلس كتلميذ نجيب أمام بوتين كما كان يؤتي بالرئيس اللبناني ليجلسوه أمام غازي كنعان ورستم غزالي. وكلنا شاهد كيف يستدعي الروس بشار الأسد إلى قاعدة حميميم لإعطائه التعليمات والإرشادات وتلقي الأوامر والإملاءات من الأسياد. وعندما زار وزير الدفاع الروسي سوريا لم يعلم بشار بالزيارة إلا عندما استدعاه شويغو إلى القاعدة الروسية. وقد شاهدنا جميعاً بشار وهو يقول لوزير الدفاع الروسي: يا لها من مفاجأة كبرى، لم أعلم أنني سأقابلك شخصياً. لاحظوا أن كبار المسؤولين الروس، يأنفون، ولا يتنازلون وكما ولاة بلاط عنجر سابقاً، بزيارة الأسد الصغير في مقره بدمشق بل يستدعونه إلى حميميم. هذا ما فعله بوتين. وقد عمد الإعلام الروسي وقتها إلى إظهار الأسد بمظهر الطرطور، حيث أوقفه جندي روسي عندما حاول السير مع بوتين إلى المنصة التي كان سيلقي بوتين منها خطابه أمام القوات الروسية في القاعدة فالأعراف لا تسمح لتابع أن يمشي بموازاة سيـّده، فما بالكم بقيصر من ناطور لإحدى مزارعه. وفي لقطة أخرى أكثر إذلالاً شاهدنا الوريث الصغير وهو يقف مع ضباط روس صغار وراء الخط الأصفر، بينما كان بوتين يلقي خطابه، وكأن الرئيس السوري وأحد من حاشية الرئيس الروسي ومرافقيه، علماً أن القاعدة الروسية تقع على أرض سورية ذات سيادة.
هل تختلف معاملة غازي كنعان ورستم غزالي للمسؤولين اللبنانيين في عنجر عن معاملة الروس للقيادة السورية في حميميم؟ ربما كان كنعان وغزالة أرأف بالساسة اللبنانيين من المسؤولين الروس في تعاملهم مع النظام السوري. وكما كان الضباط السوريون يتدخلون في كل شاردة وواردة في لبنان، ها هم الروس وقد أصبحوا يتحكمون في كل تفاصيل الدولة السورية عسكرياً وأمنياً وسياسياً واجتماعياً. وإذا أراد مسؤول سوري أن يترقى في وظيفته الآن فلا بد من المرور عبر الروسي والإيراني وليس عبر دوائر النظام. واليوم يتسابق الضباط والمسؤولون السوريون للحصول على رضا الروسي والإيراني تماماً كما كان يفعل المسؤولون اللبنانيون أمام كنعان وغزالة وجامع ذات يوم.
إنها أحكام الحياة ودروسها القاسية وقوانينها الصارمة التي تحكم الكون ولا ترحم أحداً من الأنام، ومنها ما يقول على سبيل المثال، لو دامت لغيرك ما آلت إليك، وكما تدين تدان، وبالكيل الذي تكيل تكال، وطبعاً فهذا الغلام، ليس منها باستثناء، فها هم الروس يكيلون له بذات الكيل و«السطل»، ويسقونه من ذات كأس المر والعلقم والمهانات الذي أذاق به شعب ونُخـَب لبنان.
المصدر: القدس العربي