كيماوي الأسد: آلام لن تنسى وجريمة لن تغتفر

كيماوي الأسد: آلام لن تنسى وجريمة لن تغتفر

في مثل هذا اليوم قبل تسع سنوات، وتحديدا في فجر يوم الأربعاء 21/08/2013 كانت البشرية على موعد مع آلام لن تنسى وجريمة لن تغتفر، جريمة من جرائم لا تعد ولا تحصى قام بهم نظام الأسد ضد الشعب السوري دون أن يهتز له جفن، جريمة أودت بحياة أكثر من 1400 طفل وامرأة ورجل، والآلاف من المصابين الذين تجرعوا آلام الاختناق بغاز السارين، الغاز المحرم دوليا والذي استخدمه ضدهم جيش كانت مهمته التي أُسس من أجلها حمايتهم لا قتلهم.

في ذلك الصباح كانت الظروف الجوية مواتية لهجوم كيميائي يتضمن غازات ذات كثافة عالية تبقيها قريبة من الأرض بسبب وزنها الثقيل، فدرجات الحرارة المنخفضة بين الساعة 2:00 صباحًا والساعة 5:00 صباحا سوف تساعد الغاز على الهبوط ليخترق الملاجئ التي عادة ما يختبئ فيها المدنيون السورين عندما يبدأ جيش الأسد هجوما صاروخيا عليهم، وبالتالي فخطة الجيش الأسدي في القضاء على أكبر عدد من المدنيين سوف تحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا، إذ يسرع الأهالي إلى الملاجئ للاحتماء من الهجمات الصاروخية، فيموتون اختناقا بسُم السارين الذي يُثقل هواء هذه الملاجئ دون أن يستطيع أحد مساعدتهم.

كل شيء مباح!

ATTENTION EDITORS - VISUALS COVERAGE OF SCENES OF DEATH AND INJURY A man holds the body of a dead child among bodies of people activists say were killed by nerve gas in the Ghouta region, in the Duma neighbourhood of Damascus August 21, 2013. Syrian activists said at least 213 people, including women and children, were killed on Wednesday in a nerve gas attack by President Bashar al-Assad's forces on rebel-held districts of the Ghouta region east of Damascus. REUTERS/Bassam Khabieh (SYRIA - Tags: CONFLICT POLITICS CIVIL UNREST TPX IMAGES OF THE DAY) TEMPLATE OUT

ما زالت أحداث ذلك اليوم تطارد وجداننا، وترفض أن تغادر كياننا، تلك الأحداث التي عشناها وعاشها العالم أجمع بحالة من الذهول والإنكار ورفض التصديق بإمكانية وجود وحوش بشرية تعيش بيننا قادرة على قتل هذا العدد من الناس بدون إحساس بالذنب، ومن ثم تعود لمتابعة التخطيط والتنفيذ لجرائم جديدة دون خوف من حساب.

في الساعة الثانية والنصف صباحا من ذلك اليوم وعقب تصريح أدلى به رأس النظام السوري بشار الأسد في اجتماع له مع مؤيديه على مائدة إفطار، قال فيه “لا يوجد استثناءات لأي وسيلة يمكن أن تخرجنا من هذه الأزمة”. قام جيشه بتوجيه ضربة بالسلاح الكيميائي لمنطقة جوبر والغوطة الشرقية المحاصرة.

في ذلك الوقت نفسه كان بعض الشبان قد حضروا صينية حلاوة بالسميد جلسوا أثناء نوبة حراسة لمستودعات القمح التي تم تجميعها لتوزيعها على الناس، وفجأة سمعوا صوت قصف مغاير لما اعتادوه من قصف الطائرات بالبراميل والصواريخ، صوت إطلاق صواريخ تبعه صفير ثم انفجار خفيف ورائحة غريبة، لم يتمكن أحد الشباب من إتمام عبارة استغرابه من الرائحة، حتى لاحظ أن بعض رفاقه الجالسين الى جواره قد وقع أرضا والزبد يخرج من أفواههم، فيما أخذ الآخرين يعانون من نوبات اختناق وسعال شديد.

ركض من استطاع منهم إلى السيارات ليحذروا وينقذوا من يستطيعون، مِن أعراض لا يعرفون تفسيرا لها، فيما هرع أيمن إلى أهله محذرا “كيماوي كيماوي”، فأسرعوا يحاولون الوصول إلى الملاجئ لكنهم سقطوا مغمى عليهم، ثم حاول خالد إنقاذ من سقط فاقدا وعيه منهم، وحمل أخته ثم أخته الأخرى، ثم حاول أخذ ابنه الرضيع إلى السيارة، ففوجئ بوالده وأخيه وزوجته قد وقعوا أرضا والزبد يخرج من أفواههم، وخر وهو يحتضن ابنه مغشيا عليه خلف مقود السيارة، التي حاول قيادتها ولم يستطع بسبب تراكم الجثث من حوله.

في ذلك اليوم القاسي، كنا أنا ومجموعة من الأصدقاء قد خلدنا للنوم متأخرين، بعد يوم حافل من الاجتماعات واللقاءات التي تبحث الحصار الذي ضربه نظام الأسد على عدة مناطق في دمشق وريفها، وكيفية تأمين الاحتياجات الأساسية من الغذاء والدواء للمدنيين المحاصرين، وكان من بيننا صديقنا أحمد الذي ينتمي لعائلة دمشقية ميسورة تحلم بمستقبل جميل لبلدها وأهلها وأولادها، عائلة حزرومة التي انخرط كل أفرادها ومنذ البداية بثورة الحرية والكرامة، وقد تخصصوا منذ بداية الأحداث في مجال الخدمة المدنية والإغاثة في جوبر والغوطة الشرقية، وخصصوا جزء من المباني التي يمتلكونها لتكون مكاتب ومستودعات لفرق الاستجابة والخدمات الطبية وغيرها من الأعمال المدنية.

رسائل الموت

Children, affected by what activists say was a gas attack, breathe through oxygen masks in the Damascus suburb of Saqba, August 21, 2013. Syria's opposition accused government forces of gassing hundreds of people on Wednesday by firing rockets that released deadly fumes over rebel-held Damascus suburbs, killing men, women and children as they slept. REUTERS/Bassam Khabieh (SYRIA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST CONFLICT TPX IMAGES OF THE DAY)

في الوقت نفسه بدأت هواتفنا جميعا تغص برسائل وصور لهجوم غريب وقع في جوبر والغوطة الشرقية والغوطة الغربية، وسط ذهول الجميع، الذين اكتشفوا أن ما يظهر على الناس الذين يتساقطون وهم يعانون من أعراض مثل ضيق التنفس وتهيج العينين والغثيان والقيء والضعف العام عند المصابين، هي نتيجة استخدام جيش الأسد لأسلحة كيماوية بدلا من الأسلحة التي يستخدمها عادة.

من شدة ذهولنا لم ينتبه أحد منا إلى أحمد، صديقنا الذي يحاول أن يتواصل مع أهله بأي وسيلة دون جدوى، وبدأ يبحث عنهم في الصور والفيديوهات المنشورة ليجد صورة ابنته جنى يحملها أحد المسعفين ثم وجد صورة أخيه الأكبر أيمن ثم فوجئ بصورة والده، والجميع تخرج الدماء والزبد الأبيض من أنوفهم وأفواههم وآذانهم بذات الطريقة، ثم وصل إلى صورة ابنته حلا أيضا وقد فارقت الحياة، وأخذ ينظر وهو يتمتم “لماذا لم أكن معهم، ليتني كنت معهم” بصوت يؤلمني حتى اليوم.

دقائق وساعات مرت ثقيلة علينا جميعا ونحن في حالة من العجز التام، الذهول والإنكار جعلنا في حالة فقدنا فيها القدرة على فعل أي شيء، فقدنا حتى القدرة على مواساة أحمد وهو يرى صور العشرات من أهله بين صور الضحايا، وكذلك وهو يروي لنا عن اتصاله قبل ساعات من الهجوم مع والدته التي حثّته على العودة السريعة الى الشام وختمت اتصالها بالدعاء له وودعته على أمل اللقاء، وأيضا زوجته التي اتصل بها الساعة الحادية عشر والنصف ليلا بعد انقطاع دام أسبوعا كاملا بسبب انشغاله أحيانا وبسبب سوء الاتصالات في الغوطة الشرقية أحيانا أخرى، أخبرته أنه لن يستطيع أن يتحدث الى الأولاد لأنهم قد ناموا باكرا اليوم، وأنهم جميعا ينتظرون لحظة عودته بفارغ الصبر، وهم جميعا لا يعلمون أن لقاءهم الأخير كان قبل سفره، وأنهم يتحدثون معا للمرة الأخيرة.

خالد ومنى تخطاهم الموت بأعجوبة، ولكنهما استيقظا على فاجعة ألمت بعائلتهم، فوالديهما الحاج أبو أيمن والحاجة أم أيمن صاحبي الابتسامة الرقيقة، وأخوهما أيمن وزوجته آلاء وولديه محمد وبراءة، وأختيهما صفا ومروة، وزوجة أحمد بيان وابنتيه جنى وحلا، وزوجة خالد نور وولده يمان، وعدد كبير من أسر أخوالهما وخالاتهما وأعمامهما وعماتهما وصل إلى 36 شخصا منهم 14 طفلا و12 امرأة و10 رجال بينهم شيوخ وعجائز قد ماتوا جميعا.

في اليوم التالي أنهى أحمد سريعا كل أعماله وارتباطاته عازما على العودة على الرغم من التحذيرات الكثيرة له من خطورة الرحلة التي قد تودي بحياته، فقد كانت الأخبار في تلك الفترة تتحدث عن مجموعات من 10 أو 20 أو حتى 50 شخص تمر من هذا الطريق أو ذاك فتختفي ولا يبقى منهم أحد، لكنه أصر أن يمضي، ورأى أن من واجبه الذهاب ليلملم جراح من نجى من أهله ويتابع العمل في طريق الحرية الذي بدأه معهم.

في صباح اليوم الـ 28 من رحلة محفوفة بالمخاطر والكمائن وطئ أحمد بقلبه أرض الغوطة الشرقية، لقد كان أحمد كطفل عاد بعد غربة الى حضن أمه لتلثم جبينه وتزيل آلامه، وليبدأ مع أخيه خالد وأختيه منى ونور رحلة أمل جديدة لن تنتهي حتى تحرير سورية الحبيبة من براثن الدكتاتورية والظلم.

بتاريخ 19.08.2022 أعلن أحمد ومعه عدد من  ذوي الضحايا والناجين من الجرائم التي قام بها نظام الأسد بحق المدنيين العزل من خلال استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية عن تأسيس منظمة دولية تحت اسم “رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية” تعمل على محاسبة نظام بشار الأسد ورفع الدعاوى القضائية ضده حفاظاً على حقوق الضحايا وذويهم، وتعريف العالم بالجرائم الوحشية التي ارتكبها نظام الإبادة بحق الشعب السوري خلال ثورته التي طالب فيها بالحرية والديمقراطية، يجمعهم هدف الانتصار لقضية الشعب السوري، والوصول لعدالة مبنية على أساس المحاسبة واحترام حقوق الضحايا وذويهم، مؤكدين أنهم سوف يواصلون السعي دائما ليسود السلام في العالم، وأحد أهم مطالبهم هو حظر الأسلحة الكيميائية وتجريم مستخدميها والخوض في مسيرة العدالة عبر ملاحقة كل المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية.

مشاركة
غرد
إرسال
بريد

أحدث المقالات

مقالات أخرى للكاتب أحمد بكورة
مقالات أخرى من شبكة الجزيرة الاعلامية

البيانات الصحفية

أخر الأخبار

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist