الفعل السياسي في قصّة ساروت الثورة السورية
خديجة جعفر
كادت الثورة السورية المحصورة في إدلب تحت قصف الطيران الروسي أن تتوارى في أزقّة الإعلام حتّى أعاد عبد الباسط الساروت، الملقّب حارس الثورة السورية، توجيه الانتباه إليها في الإعلام العربي وشبكات التواصل. لقد أضحى أشهر من أن يعرّف. قصّته هي قصّة الثورة السورية، منذ بدايتها الجماعية القوية وحتّى نهايتها المتفرقة المهزومة، مرورًا بجميع جراحاتها وآمالها وآلامها وسقطاتها وانتصاراتها الصغيرة وهزيمتها المؤلمة.
بدأت الثورة السورية كما بدأت الثورات العربية: بالكلمة والتظاهرة باعتبارهما توسلّاً لمطالبة الأنظمة بالرحيل، وهو الفعل الذي سيضع رأس النظام في مأزقٍ ليتنحّى مرغمًا بإرادة المتظاهرين. هكذا بدأت الثورة السورية بنداء: “ارحل ارحل يا بشار”، وحين ذبحهم وقتلهم وقصفهم، كان خيارهم واضحًا: “الموت ولا المذلة”.
حين اندلعت الثورة، كان عبد الباسط الساروت، الشاب ذو التسعة عشر ربيعًا، طالبًا وعامل حديد ولاعب كرة قدم. وستلعب كلٌّ من مهنته وهوايته دورًا في رسم مساره الخاصّ في الثورة. أعطاه الحديد الصلابة والقوة، وأعطته كرة القدم مهارة التعامل مع الجماهير. كان واحدًا من جموع المتظاهرين والثائرين، ولكنه كان متمايزًا عنهم في الوقت نفسه. كانت “الكلمة” التي تمثلت في الهتاف والأنشودة تجعل المتظاهرين يرقصون منتشين. ربما كانت رقصتهم هي رقصة الابتهاج بالولادة الجديدة، فالثورة ميلادٌ جديد.
الكلمة بتمثلاتها المختلفة من هتاف وشعار وأنشودة وغناء هي من صور “الفعل السياسي”، وهي كاشفة عن “هوية” ناطقيها. تصف حنّا آرندت “الفعل السياسي” بأنّه “كلمة وعمل”، وأنّ الاثنين كاشفان عن الـ “من هو”، أي عن هوية الشخص الذي يتكلّم ويعمل وسط أقرانه وهو في حالة “معيّة”؛ فحالة المعيّة شرط للكلمة التي في منزلة الفعل السياسي، والكلمة في حالة المعيّة والانكشاف تصبح بداية جديدة، وبالتالي ولادة جديدة.
كان الساروت متحققًا بحالة “المعيّة” التي لا يظهر الفعل السياسي إلاّ فيها. قال في إحدى المقابلات معه مجيبًا عن سؤال: لماذا خرجت وتظاهرت مع الناس؟ أنا واحد من هذا
الشعب، ويجب أن أخرج مع هذا الشعب. .. كان قراره واعيًا أنّه مع هذا الشعب وإلى النهاية.
وعندما خرج مع “هذا الشعب” كان مثل أقرانه يتكلم بالكلام الكاشف عن هويته الممثّلة في الحرية والكرامة والنخوة. هذا التميز الذي كان واعيًا به، حين قال، في أحد لقاءاته، إنّه كان معتادًا على الجماهير في لعبه السابق بكرة القدم، وأنّ حماسه الزائد هو ما جعله “يُحمَل” على الأكتاف ويصعد إلى المنصّة، وينشد “حانن للحرية حانن.. يا شعب ببيته مش آمن..” و”جنّة جنّة جنّة.. جنة يا وطنّا”، فكان مثل “رامي الهاون” كما وصف نفسه، يُلهب الجماهير بحنجرته.
كلامه وغنائيته كانا كاشفيْن عمّا يريد بصدق، فلا شيء مختبئء، ولا رغائب مختبئة. الحرية والكرامة والوطن وجنّة الوطن، وحب الوطن هو ما يريده بصدق.
كانت سنواته العشرون لا تتحمّل هذا المصير المؤلم والجزاء القاسي لكلماته التائقة للحرية، ولكنّها تحمّلت. قوبلت الكلمات والهتافات والأهازيج بالقتل والتدمير والقصف والقتل. وهنا، لم يعد بدٌّ من العمل. والعمل هو الصورة الثانية للفعل السياسي، كما قالت حنّا آرندت، وليكون العمل “فعلاً سياسيًا” عليه أن يكون متسقًا مع “الكلمة”. وهنا عمل عبد الباسط أعمال البطولة.
وأعمال البطولة هي المنبثقة عن “المبدأ”، وهو الجذر الذي تنبثق منه هذه الأعمال. يقول الساروت إنّه خرج في التظاهرات “حميّة” و”نخوة” لأهل درعا وأطفالها الذين اعتقلهم الأسد في بداية الثورة. وأعمال البطولة كذلك هي الأعمال المنبعثة من فضيلة مثل “الشرف” و”النخوة”، وهي تقابل وتعاكس الأفعال الخسيسة التي تنبعث من رذائل الطمع في السلطة وشهوة الحكم والرياسة. وبالفعل، حين قُتِل الأطفال والنساء والمستضعفون انبعث فعل “القتال”
من واجب “الحماية” و”الذود” عن النفس والعرض والشرف والمسؤولية.
ليس فعل الساروت، إذن، من التحام بالثورة المسلحة، وقتال نظام فاقد للشرعية بالسلاح، “عنيفا” بحتا، بل هو فعل “الحماية” تحت وطأة الدفاع وليس “المبادأة”. وهو الفعل المرتبط بالرجولة الحقّة والمسؤولية وواجب الحماية والشرف.
ولكن أفعال البطولة يمكن أن تُنسى، ولا تحملها ذاكرة، فتذوي كما تذوي الرياح، فما يحفظ الفعل السياسي من أن يذوي هو حكي ورواية القصة التي تتماسّ مع قصّة كبرى، هي قصّة الثورة السورية. وهذه القصة الصغرى (قصة الساروت) كانت حالة نموذجية. كان هو الثورة والثورة هو. يقول: “حياتي هي الثورة.. كل شي أفكّر فيه وأنى نايم وأنى ماشي هي هاي الثورة.. سبحان الله.. تعلّقت قلوبنا فصار عنّا مسؤولية..”.
تحكي قصة الساروت قصّة البداية الحقيقية، فالساروت بدأ من دون ذاكرة، هكذا يبدو، غير محمّل بتاريخ الصراع الماضي، وربما لم يحتشد ذهنه بالأحداث الأليمة لثورة الثمانينيات قبل انفجار ثورة 2011. ولذا كانت البداية عفوية، فاستطاع التعاون مع الجميع. منهم فدوى سليمان، الممثلة ذات الأصول العلوية. يقول الساروت: “فدوى معنا ليس لأنها ممثلة، بل لأنها تعيش معنا البطولة” كان الساروت واعيًا لما تعنيه البطولة وما تقتضيه.
ثمّ حدثت صدمة القصف والمجازر. وبتلقائية المبتدئ الذي يعيش اللحظة الحاضرة فقط من دون إثقالات الماضي، حمل عبد الباسط الساروت السلاح مع أقرانه، ليس لأجل العنف وارتكابه ابتداءً، إنّما لأجل “الدفاع” و”الحماية”. وحين حدث القصف والاقتحام، انتقل الساروت مع
إخوته ورفاقه لتكوين كتيبة صغيرة للدفاع عن التظاهرات تدّعى “كتيبة شهداء البياضة” فكانت اسمًا على مسمّى، إذ استشهد من خيرة مقاتليها 64 ثائرًا في معركة المطاحن بحمص في يناير 2014.
عاش عبد الباسط الفقد تلو الفقد، حين فقد بيته ومسكنه وحيّه ومدينته. فقد أبيه وفقد أخيه وليد في بداية الثورة الذي قتلته دبابة أسدية، ثم فقد أخوين شقيقين وأخًا من الرضاعة في مجزرة المطاحن، ثمّ فقد أخًا خامسًا في إدلب.
لم ينكص الساروت ولم يبدّل نيّته، ولم ينكص عن عزمه، وحين ذهب إلى تركيا بسبب خلافات فصائلية، وتعرّض لاعتقال سبعة وثلاثين يومًا، عاد مرّة أخرى ليواصل الطريق على الرغم من الآلام والأوجاع، وفقد رفاقه وإخوته الذين بدأوا معه الطريق. كان الساروت قادرًا على عيش اللحظة الحاضرة، وعلى استقبال ما تلقيه الحياة إليه من أحداث ضخمة ومفاجآت. لم يلتفت إلى الماضي أو المستقبل، بل عاش هذه الأحداث وجابهها مجابهة البطل، كما لو كانت في كلّ مرة تعطيه فرصة “الشهادة” التي كان يطلبها صادقًا: “حلم الشهادة يابا حلم من سنين.. بدمانا نرضي يابا رب العالمين.. حلمي بالشهادة يابا بالنصر اتنين.. بالنصر اتنين”.
مصدرُ جماهيرية الساروت أنّها تمثّل حقيقي وصادق للثورة، عن مبدئها وجماعيتها وتفرقها وصدقها وانتصاراتها وانهزاماتها. كانت للساروت جماهيرية، لأنّ أعماله كانت مسبوقة دائمًا ومصحوبة بالكلام والخطاب. وللكلام قوته وهو في حدّ ذاته فعل.
استشهاد الساروت في ذاته فعل. فعلٌ جعل العالم يسمع ويرى ويدير عينيه تجاه سورية. باتجاه إدلب آخر معاقل الثوريين. كانت حياته قصيرة عريضة. حياته هي حياة الثورة السورية. حياة الساروت كانت “فعلاً” حقيقيًّا. لم يفعل في حياته شيئًا سوى “الثورة”.
المصدر: العربي الجديد