عندما يقال: “الجزيرة والفرات” يرتبط الاسم مباشرة بالمحافظات السورية الثلاث: دير الزور والرقة والحسكة، المتشابكة في تركيبها السكاني وفي التوأمة التاريخية عبر كثير المشتركات.
ولئن تميّزت الحسكة ومناطقها وقراها بالغنى الإثني والقومي: عرب وسريان آشوريين وأكراد، وتفاعل ذلك المزيج عبر شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، فإن للدير مكانتها التاريخية (مدينة وريفاً) في مسار سورية وتكوينها، وفي النضال ضد الاحتلال الأجنبي وبناء سورية الحديثة، ومن خلال الحركات السياسية التي عرفت انتشاراً كبيراً فيها بتلك البصمة الخاصة لأبنائها؛ بينما تبقى الرقة وأراضي الحسكة الخزان الزراعي الأكبر، خاصة في إنتاج وتصدير الحبوب.
منطقة الجزيرة والفرات من أهم المناطق الإستراتيجية في سورية، لمعانقتها لكل من العراق وتركيا ضمن حدود طويلة، ولما تملكه من ثروات طبيعية متعددة تضاف إلى ثرواتها الزراعية، خاصة النفط والغاز الذي بلغت صادراته نحو 45% من مجموع الصادرات السورية، يضاف إلى إسهام سكانها المتميز في العمل السياسي، وفي حراك الثورة.
وكما كان حال معظم المدن السورية في الثورة حين انتفضت بأغلبيتها، كانت محافظات الجزيرة والفرات في مقدمة الثائرين الملتحقين بالثورة، ثم في حركة الضباط المنشقين وتشكيل فصائل الجيش الحر، وفي خوض أشكال واسعة من المواجهات مع النظام، إن كان عبر الحراك السياسي أو العسكري.
وأسهم أبناء الحسكة عرباً وأكراداً وآشوريين وسريان بقوة في المظاهرات السلمية على مدى الأشهر الأولى للثورة معلنين انتماءهم إليها، وتمكّن الثوار من تحرير الرقة ومدن ومناطق عديدة في الحسكة ودير الزور وطرد قوات النظام وحلفائه الإيرانيين منها.
لكن، ولتضافر تلك الأسباب مجتمعة كانت الجزيرة والفرات عرضة لغزوات واحتلالات مختلفة، فبرزت “داعش” غولاً مدمّراً يحمل الموت والخوف، وفرضَ منظومة من المفاهيم والممارسات التي تشوّه جوهر الدين الإسلامي، وتعطي جميع المبررات للقوى الدولية أن تدخل من هذا الباب الواسع: محاربة الإرهاب، في حين تؤكد المعلومات المتواترة أن وجود وانتشار وأفعال داعش لم تكن بريئة وذاتية بقدر ما هي صناعة أجهزة مخابرات عدة دول تم توجيهها لتشويه، وضرب الثورة السورية، وإيجاد المبررات لكل أنواع التدخل الخارجي.
أمام سيطرة هذا الغول المنفلت العقال من كل قيم إنسانية وحضارية وإسلامية حقيقية كان قيام ما يعرف بـ”التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب” الذي حصر مهامه بمحاربة داعش وإنهاء وجودها في المناطق التي تسيطر عليها، رافضاً أن يشمل جهده الحربي بقية القوى الإرهابية التي تمارس دوراً كبيراً في عمليات القتل والتدمير واستمرار النزيف السوري، وفي مقدمها نظام الجريمة والفئوية والفساد، المسؤول الأول عمّا جرى ويجري لبلادنا، وما استقدمه من ميليشيات طائفية عابرة للحدود ومن خلفها إيران بمشروعها القومي ـ المذهبي وما يمثله من مخاطر على حاضر ومستقبل سورية.
رفض الائتلاف المشاركة بذلك الحلف وفقاً للموقف الأمريكي الذي لم يقبل توسع دائرة عمله فاتجه نحو (PYD) لاعتماده وتدعيمه لأسباب متشعبة، في حين أن الأمريكان وغيرهم يعرفون علاقته كفرع من تنظيم(PKK) المصنف لدى الأمريكان وغيرهم على أنه تنظيم إرهابي، محاولين ولو بصورة غير مباشرة الاستفادة من “الحالة الكردية” وتوظيفها بطريقة ما.
إصرار الأمريكان في لقاءاتهم المتكررة مع الائتلاف على أن علاقتهم مع (PYD) تقتصر فقط على العلاقة العسكرية، وأنه ليس لديهم أية علاقة سياسية بهم، أمر يثير الاستغراب، ذلك أن أية علاقة عسكرية، خاصة إن كانت بذلك المستوى من الدعم والرعاية في مختلف المجالات سيؤدي إلى نتائج هامة على الصعيد السياسي للجهة المدعومة عسكرياً، والتي تحوّلت في زمن قصير من حزب محدود العدد والتأثير إلى قوة ضاربة تحت تصرّفها أسلحة ثقيلة ومجندون يتلقون الرواتب والتدريب على أعلى مستوى، وبما مكّن “قسد” من بسط سيطرتها على معظم منطقة الجزيرة والفرات بغطاء أمريكي وحماية من قواتهم وتواجداتهم .
إن الحرب على الإرهاب لم تكن تلك الحرب النظيفة في مختلف المجالات، فقد تعرضت المدن والمناطق التي طالتها، وتشمل: مدينة الرقة بكل مناطقها وأجزاء كبيرة من دير الزور وبعض أجزاء الحسكة، إلى تدمير شامل، وإلى قتل آلاف المواطنين الأبرياء وتهجير معظم سكان تلك المناطق الذين هجّوا من ويلات الحرب والموت بحثاً عن أي مكان آمن، ثم استكمال تلك الحرب بما مارسته وتمارسه قوات(PYD) من قتل واعتقال وتجاوزات وتغيير ديمغرافي، وفرض مناهج تدوس على معهود العلوم والثقافة السورية وفرض سلطة مدعومة من الخارج على مناطق عربية خالصة، أو ذات أغلبية عربية كبيرة، وحتى الحسكة الخليط فإن عموم الإخوة الأكراد كانوا في مقدمة المتضررين، وقد تعرّض المجلس الوطني الكردي للكثير من عمليات الخطف والاعتقال ومصادرة البيوت والتضييق، ناهيك عن رفض الأغلبية لفرض مناهج مناقضة للمنهج السوري المعترف به في المناطق المحررة، أو ذلك الذي تعتمده منظمة اليونسيف.
قيام الإدارة الأمريكية منذ مدة برعاية “حوار كردي ـ كردي” تخالف مقولاتهم السابقة عن عدم وجود علاقات سياسية، بغض النظر عن المبررات التي يطرحونها حالياً حول أهمية انفكاك (PYD) عن (PKK)، وعن النظام أيضاً، خاصة وأن هذا الحوار اقتصر على الجانبين ولم يتسع ليشمل المكوّن الأكبر في المنطقة: العرب.
ولأن المنطقة ظلّت لعقود شبه منسية، ومهملة، وبعضها مغضوب عليه جداً، ولأنها تواجه أخطاراً جدّية لها تأثيرها الكبير على سورية ومستقبلها ومصير الوحدة الوطنية فيها، ولأن الأمريكان وغيرهم يتذرّعون بعدم وجود عنوان واضح لأبناء المنطقة، ولأهميتها الجيوسياسية، شكّلت الهيئة العامة للائتلاف منذ سنوات “لجنة الجزيرة والفرات” التي ضمّت الأعضاء من أبناء المنطقة بهدفٍ رئيس: التواصل والتفاعل مع فعالياتها كافة والتشاور معهم وصولاً إلى صيغ عملية تحقق الشعار المرفوع: “تمكين أهالي المنطقة من إدارتها” وفقاً لصيغ مناسبة يختارونها هم، ووضع برنامج واقعي ممرحل لما يمكن القيام به، بما في ذلك قيام هيئات ضرورية في عموم الميادين تكون مهيّأة للقيام بدورها المأمول، وإنهاء الوجود الخارجي فيها.
نعم لقد واجهت اللجنة صعوبات متشابكة، وظروفاً غير مناسبة، لكنها ومنذ أشهر، وعبر إقرار إستراتيجية الائتلاف للمرحلة الحالية والقادمة التي تستند على مبدأ التشاركية وتحقيق شعار الاصطفاف الوطني عبر حوار وطني مفتوح، عرفت اللجنة أنشطة متلاحقة بترتيب لقاءات تشاورية مع فعاليات مختلفة من دير الزور، ثم الحسكة، فالرقة، تمهد الطريق للقاءات تشاورية أوسع يختارون فيها من يمثلهم وفق تسميات يختارونها ودون أي تدخل من الائتلاف، تكون الخطوة الرئيس لوضع برنامج عمل، وفتح حوارات مع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة(كالأتراك وأمريكا) لتمكينهم من إدارة المنطقة ضمن وحدة سورية الجغرافية والسياسية والاجتماعية.
لم يقم الائتلاف بأية تسميات، وليس بوارده التدخل فيما يختاره أهالي المنطقة من ممثلين لهم، وسيكون دوره مقتصراً على التسهيل والمساعدة بما يقدر عليه، ولتحقيق الأهداف المشتركة لسورية التي نريد، سورية الموحدة ـ المحررة