نصف قرن وسورية معتقلة.. لمناسبة انقلاب الأسد 1970

تساءل كثير عن أسباب استمرار انقلاب الأسد كل هذه المدة الطويلة، خلافاً لمعهود سورية بعد الاستقلال التي اشتهرت بتوالي الانقلابات العسكرية، وعدم استقرار الأنظمة سوى لبضع سنوات، وأحياناً أقل .. فما هو السرّ ؟؟؟

ـ هناك من يُرجع الأمر إلى توافق دولي على ذلك النظام، وأولها إسرائيل وما تمتلكه من نفوذ وتأثير عالمي ..

ـ وهناك من يرجع الأمر إلى مخطط طائفي يعرف نوعاً من التنظيم الذي نجح بالإمساك بمفاصل الدولة، خاصة الجيش والأجهزة الأمنية ..

ـ وهناك من يعيد الأمر إلى “عبقرية” الأسد الأب وقدراته التكتيكية “الخارقة”، ونجاحه باللعب على حبال التوازنات الدولية، والإقليمية ….

ـ لا شكّ أن مجموعة عوامل تشابكت وتداخلت وأنتجت هذا ” الاستقرار” الطويل، ولنبدأ من البداية :

العوامل الدولية :

في الستينات كان العالم منقسماً إلى معسكرين متصارعين، وكان طبيعياً أن تنحاز القوى والنظم المحسوبة على حركات التحرر الوطني والقومي إلى المعسكر الاشتراكي، ولو بعديد الفوارق، والنسب، والخلفيات، لكن ومنذ أزمة كوبا التي أوصلت الصراع إلى حافة الهاوية، ثم إقالة خروتشوف كزعيم للاتحاد السوفييتي حدثت انعطافة كبيرة في الصراع عبر تحويله إلى ” صراع سلمي” فيما عرف بالتعايش السلمي، وكان لذلك تأثيره الكبير على القوى الراديكالية التي تواجه إرث الاستعمار وتدخلات القوى الإمبريالية، ناهيك عن طبيعة الصهيونية والموقف منها، وأطروحات تحرير فلسطين ..

في سورية، وبعد “حركة 23 شباط 1966″ حدث تصعيد كبير ضدّ إسرائيل عبر دعم العمل الفدائي بقوة، وإطلاق مجموعة من الشعارات النارية التي خلطت بين التكتيك والاستراتيجي، وبين الواقعية والطموح، فبدا أن ” تحرير فلسطين” قاب قوسين وأدنى، الأمر الذي حرّك القوى الدولية المساندة لإسرائيل، خاصة أمريكا عبر جملة من التصريحات والتحركات وحملات الحشد والتأليب ضد النظام في سورية “أصحاب الرؤوس الحامية”، بينما قامت إسرائيل بسلسلة من الغارات الجوية والاعتداءات على الأرض السورية، وقامت بحشد على الجبهة السورية الأمر الذي دفع بعبد الناصر إلى التحرّك السريع واتخاذ مجموعة من الخطوات الجريئة، والمستعجلة في سحب القوات الدولية، وإغلاق مضائق تيران بوجه الملاحة، وإنهاء توافقات ما بعد العدوان الثلاثي 1956، ثم تحشيد القوات في سيناء وقرع طبول الحرب القريبة .

إسرائيل كانت تخطط من سنوات لحرب شاملة وقد واتتها الفرصة، لهذا فعدوان حزيران لم يكن حالة طارئة وإنما تنفيذا لمشروع مسبق تضرب فيه النظامين الوطنيين في مصر وسورية، وتحتل كامل فلسطين وأجزاء من مصر وسيناء، وهو ماحدث في حرب 5 حزيران 1967 حين تمكّنت إسرائيل من إلحاق الهزيمة الشاملة بالجيش المصري ثم التوجه نحو سورية واختراق جبهة الجولان الحصينة ثم التوسع وصولاً لاحتلال الجولان بكامله، وكذلك الضفة الغربية التي كانت تابعة للأردن بما فيها القدس…

منعطف استراتيجي حدث بعد الهزيمة ستكون له تداعياته المتلاحقة، فالنظام السوري رفض القبول بالقرار 242 الذي صدر نتاجاً للهزيمة، والذي يدعو للاعتراف بإسرائيل، والفصل بين الأراضي التي احتلت وبين فلسطين، وصعّد في شعاراته ومواقفه بدعم العمل الفدائي، وطرح شعارات الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، ووصل ذلك التصعيد أوجه في قرار التدخل بالأردن نجدة للمقاومة الفلسطينية أيلول_1970 والذي شكّل الضوء الأخضر لقيام انقلاب ضدّ ذلك الخط وأطروحاته، وكان الأسد جاهزاً، ويحضّر من سنوات لمثل تلك الفرصة التي يصبح فيها حاكماً وحيداً لسورية ..

((قيل الكثير في علاقة الأسد بالمخابرات البريطانية وارتباطه بها منذ زيارته لبريطانيا ربيع عام 1965، أو ما كتب وقيل عن دوره في حرب حزيران وسقوط القنيطرة والجولان))..

سأضع ذلك جانباً وأماشي الوقائع الظاهرة لفترة ما بعد الهزيمة حين سقط اقتراح قدّم “للقيادة المشتركة” (أي القومية والقطرية) بضرورة تغيير وزير الدفاع ورئيس الأركان وسقوطه بفارق صوت واحد، وما يعتبره بعض أعضاء القيادة الذين كانوا معه بأنه شكّل نقطة تحوّل عند الأسد وهو يشعر بأنه سيُّقدّم كبش فداء، وأنه لا يتحمل وحده وزر الهزيمة، لذلك بدأ ـ علنياً ـ بتشكيل تكتله العسكري الذي راح يتسع ويضغط، وبه انتصر وعمل الانقلاب .

الحقائق تقول أن الأسد الذي رفض إرسال الطيران إلى الأردن أثناء قرار دخول الجيش السوري كان يراهن على استجلاب رضا الدول المعادية للنظام وتقديم نفسه (كمعتدل)، ومختلف عن ذهنية رفاقه في القيادة “الناريين” والحالمين، وأنه واقعي، لذلك قدّم عديد الإشارات التي تتضمّن موافقته على القرار 242، وتواصل مع النظام العراقي الذي كان بينه وبين النظام في سورية(ما صنع الحداد)، ومع الملك حسين، والجهات الغربية تحضيراً لما يخطط له قادماً، والذي لا شكّ أنه لاقى الدعم والتأييد بأشكال مختلفة دللت عليها مواقف الترحيب بانقلابه على صعيد دول الخليج العربي، والعراق، والأردن، والغرب عموماً، وهو ما يشكّل جوهر السياسة التي اعتمدها، وفي أساسها  القبول بالتسوية مع إسرائيل وضمان أمنها واستقرار الحدود معها، والعمل على احتواء منظمة التحرير الفلسطينية وإلا شقّها ومحاولات ضعضعتها ..

وجود مخطط طائفي :

سمعت الكثير عن وجود” مجلس ملّي” للطائفة العلوية كائن وفعّال، وانه هو من يخطط ويقود، وهناك رأي آخر كان يطرحه بعض أعضاء القيادة البعثية بوجود تنظيم داخل تنظيم البعث من مجموعة علوية معظمها مكوّنة من الضباط هو الذي خطط وقاد، وهو الذي قرر أن يسيطر على البعث ويجيّره لصالح الطائفة، وأن اللواء صلاح جديد(الرجل القوي والذكي والقائد البعثي الشهير) رفض الانصياع فتمّ التخلي عنه، واختيار الأسد القابل به ..

مسألة الطائفية وفروقها عن المذهبية طويلة، متشعبة، وأعتقد أن الأسد كان حريصاً ألا يظهر كطائفي، أو صاحب مشروع طائفي، بغض النظر عن حجم وفعل الطائفية داخله، وقصة المظلومية وردود الفعل عليها، لكنه كان مستعداً لتوظيفها واستثمارها إلى أبعد مدى، والارتكاز عليها كعمود أساس في انقلابه، وفي الإمساك بمفاصل الجيش والأجهزة الأمنية ولا مانع من موضعتها هي وغيرها من المكوّنات الدينية والمذهبية وتنصيب نفسه ليس كحام للأقليات وحسب، بل للسنة وغيرهم .

شخصية الأسد الطاغية :

رفاق الطاغية الأسد الذين عاشوا معه في القيادة كانوا شبه مجمعين على محدودية ثقافته وإمكاناته الذاتية وقدراته الخاصة، وهناك كثير منهم كان ينعته بالغباء وبعبارات قاسية، خلافاً لما أظهره بعد انقلابه، ومخاتلاته، وخبثه، وعناده، وتكتيكه.

بعضهم تطرّق لنقطة مهمة ـ صحيحة ـ تتعلق بقدرته الفائقة على شراء ولاء الآخرين يساعده في ذلك موقعه الحيوي كقائد لسلاح الطيران، ثم كوزير للدفاع تحت تصرفه ميزانية ضخمة يتصرَف بها دون حسيب أو رقيب، والتي تمكّن من خلالها كسب المؤيدين، وتلبية طلباتهم في مختلف المجالات، وحمايتهم على طريقة نظام العصابات .

الأسد الخبير بطرق الانقلابات عمل منذ البداية على إغلاق تلك الطرق من خلال شبكة متشعبة من الوسائل، تبدأ بتوسيع قوات أخيه (سرايا الدفاع) لتكون قوة ضاربة تمسك مفاصل العاصمة، إلى جانب الوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر، ونشر بعض الألوية حول دمشق، وبالوقت نفسه إنشاء وتوسيع الأجهزة الأمنية وتعددها، بما فيها أجهزة تابعة للقصر تراقب أجهزة أخرى ونشر أجواء الخوف والترهيب بين الضباط بأنهم تحت المراقبة ترافقاً مع اعتقال وإبعاد كافة الضباط الذين يشكّ بولائهم، وبالتالي، وحين ضمن السيطرة على المفاصل عسكرياً وأمنياً فإن كل معارضة تأتي من المجتمع، أو من المدنيين لا تشكل أي خطر ويمكن قمعها، وتفتيتها بكل الوسائل، وذلك جزء من عقلية معظم العسكريين الذين لا يؤمنون بغير القوة، ولا يقيمون وزناً للمدنيين وما قد يفعلون .

الأسد عاشق للسلطة والمبادئ عنده وسيلة وليس العكس، كما كان معظم رفاقه، وهو في سبيل ذلك مستعد للمقايضة بجميع القضايا، حتى تلك الوطنية والقومية الحسّاسة التي يرفع شعاراتها كاذباً، لهذا كان همّه الرئيس البقاء في الحكم، وتلبية مطالب القوى المؤثرة دولياً، وتأمين أمن إسرائيل بإغلاق الحدود أمام أي عملية ضدها ولو كانت طلقة رصاص من العام 1974 وحتى تاريخه رغم أكوام شعارات المقاومة والممانعة، وقبلها الصمود والتصدي، والتوازن الاستراتيجي .

الأسد الفرد، الدكتاتور، المشبع بالحقد لم يكن يوماً مقتنعاً بحزب، أو بغيره، لذلك داس عليه وأفرغه من كل مضمون وحوّله إلى ممسحة لنفاياته ومفاسد النظام، وبالوقت نفسه يحافظ عليه واجهة شكلية، تماماً مثلما يضع في الوزارة وبعض المواقع واجهات سنية ومن غير العلويين، وفوق ذلك فإصراره على التوريث لم يكن خلعاً للبعث من جذوره وحسب بل، وايضاً، تجسيداً لنزعة الملكية بتحويل سورية إلى ملكية خاصة وكل ذلك عبر استخدام مزيد القمع والإخضاع، واعتقال البلد ومنع أي صوت معارض..

نعم.. خمسة عقود وسورية معتقلة، وفوقها جاء الوريث المفروض للإمعان في تدميرها وتحويلها إلى نثار.. وما يزال كأبيه ـ متمسكاً بالحكم على تلال جماجم السوريين والبلاد.

المصدر: أنباء سوريا

مشاركة
غرد
إرسال
بريد

أحدث المقالات

مقالات أخرى للكاتب عقاب يحيى
مقالات أخرى من أنباء سوريا
لم يتم العثور على أعمال أخرى ضمن هذا المصدر

البيانات الصحفية

أخر الأخبار

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist